حسام كنفاني«يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزلِ». هذا لسان حال قادة أجهزة الأمن الوطني الفلسطيني، الذين فتحوا مكاتبهم في جنين لاستقبال رئيس «الشاباك» الإسرائيلي يوفال ديسكين. زيارة لم تكن عابرة، بل إن المذكور قضى يومه كاملاً في رحاب رجال الأمن الفلسطيني، الذين لا شك تباهوا أمام الرجل بما حققته أيديهم لجهتة تأمين «الأمان والسكينة والهدوء»، وهي مطالب إسرائيلية ألبست رداءً فلسطينيّاً مستعاراً خدمة لأغراض استثمارية كان قد تحدّث عنها رئيس السلطة محمود عبّاس الأسبوع الماضي.
ومرة جديدة سيخرج من الفلسطينيين من يقول إن زيارة ديسكين، التي لم تكن الأولى، ليست مصنّفة في إطار المفاوضات المباشرة. ففي قاموس السلطة الفلسطينية يبدو أن تعريف المفاوضات المباشرة يقف حكراً عند لقاء عباس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وكل ما دون ذلك هو غير مباشر.
وعلى هذا الأساس، فإن باب «كرم الضيافة» الفلسطينيّة مفتوح على مصراعيه أمام المسؤولين الإسرائيليين على مختلف مستوياتهم. ربما ديسكين كان يقصد السياحة في جنين أو التبضّع من أسواقها الشعبية، وكان لا بد من استضافته حرصاً على «الجيرة» الإسرائيلية ــــ الفلسطينية.
الزياة كانت فعلاً سياحية، لكنها سياحة تنسيق أمني عالي المستوى. وكما هو معلوم فإن هذا التنسيق، حتى وإن رفضت السلطة الاعتراف به، خاضع كلياً لملف العملية السياسية، ولا سيما أن عقبة الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، التي تصرّ الرئاسة الفلسطينية على أنها لم تبدأ بعد، مرتبط أساساً بالتقدم في مسألتي الأمن والحدود.
وبغض النظر عن زيارة ديسكين، فإن السلطة مقدمة في الأيام المقبلة على ضيافة أخرى للمبعوث الأميركي لعملية السلام جورج ميتشل. الضيف الجديد يحمل معه رزمة من المقترحات إلى السلطة الفلسطينية للانتقال إلى المفاوضات المباشرة. هل ستعيد السلطة ضيفها «مكسور الخاطر»؟ إجابة السؤال غير محسومة، ولا شيء يشير إلى أن السلطة قد ترفض فعلاً الطلب الأميركي، رغم «عنتريات» محمد دحلان الذي خرج بتصريحات جديدة عليه، وقد لا تتناسب مع مواقفه التاريخية، حين طلب من ميتشل «توفير عرضه لنفسه»، أو حين أكد أنه «على عكس ما يتوقع البعض، وحتى الجمهور الفلسطيني ودول عديدة، لن نذهب من دون الاستجابة لمتطلبات المفاوضات المباشرة».
دحلان كان صريحاً في هذا الشأن حين أشار إلى أن لا أحد مطلقاً يتوقع من السلطة الصمود في وجه المطالب الأميركية. أساساً التجارب السابقة لا تشجع على ذلك، ولا شيء يوحي بأن التجربة الحالية ستكون مختلفة كثيراً.
دحلان لمّح إلى ذلك عندما أشار إلى أن «الضغوط ستكون كبيرة وليست سهلة». لكنه أضاف جملة طوباوية لا تتسق مع هذا القيادي «الفتحاوي»، حين قال «وواجبنا أن نتحمل من أجل مستقبل الشعب الفلسطيني».
جملة تُطرب في سياقها اللغوي، لكنها لا تنسجم مع الواقع التطبيقي. التنسيق الأمني، الذي ابتدأه أصلاً محمد دحلان خلال رئاسته الأمن الوقائي في غزة، لا يتعارض من وجهة النظر هذه مع «مستقبل الشعب الفلسطيني»، ومواجهة أي تحرّكات مقاومة في الضفة الغربية هي «لحماية هذا المستقبل»، حتى وإن جُرّد الشعب من أي وسيلة دفاع عن النفس.
مسار التنازل التفاوضي بالنسبة للسلطة، وتحريف مسار «فتح» من حركة تحرر إلى حزب حاكم في لا دولة، كذلك تندرج في إطار عمليّة الحماية، التي يبدو أن دحلان يأخذها على عاتقه، تماماً كما كان «يحمي» قادة المقاومة في قطاع غزّة قبل فكّ الارتباط.
«ومن أجل الشعب الفلسطيني» أيضاً، سنتابع قريباً مسلسل شجرة الشروط مرّة أخرى، بعدما طالب أبو مازن بتقدّم في الأمن والحدود قبل الانتقال إلى المفاوضات المباشرة.
المشهد السياسي هذا تابعناه حين كان تجميد الاستيطان في الأراضي الفلسطينية سيّد الشروط. عندها جرت محاولات ومحاورات أثمرت تجميداً صورياً، وأعادت الدوران لعجلة المفاوضات، وإن على نحو غير مباشر. اليوم القصة ستكرر نفسها، المحاولات والمحاورات ستدور حول فكرة الانتقال إلى التفاوض المباشر، الذي تحدّد موعده أصلاً من دون العودة إلى الطرف الفلسطيني. إنها عودة بعقارب الساعة إلى الوراء لمرحلة عنوانها «الإقناع»، بالترغيب أو الترهيب، لتطبيق الإعلان الأميركي. تماماً كما عليه الحال عند عقدة التجميد الاستيطاني. المشهد معروف ومتابع ومكرّر، ونهايته واضحة: تنفيذ الإعلان الأميركي مع حفظ بعض ماء الوجه الفلسطيني، من دون أن يعني ذلك تنفيذ شروط عبّاس، بل إنقاذه من شروطه.
تبيان صحة هذا السيناريو أو عدمه لن يطول كثيراً. ولكن يجب عدم التعويل كثيراً على «الصمود» في ظل ما يظهر من «كرم ضيافة» فلسطيني.