سعد الله مزرعاني*لا تكتفي الحكومة الإسرائيلية بتوقّع أو بتمنّي حصول فتنة في لبنان. إنّها تعمل من أجل ذلك بكلّ ما تملكه من الوسائل والعلاقات على امتداد العالم، بما في ذلك في لبنان نفسه وفي بعض أوساط المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وإسرائيل تتعامل في هذا السياق، مع القرار 1701 بوصفه مجرد هدنة في حرب مفتوحة على لبنان عموماً وعلى المقاومة فيه خصوصاً. إنّ «إخفاقات» الجيش الإسرائيلي في حرب تموز لعام 2006، هي التي أملت ذلك القرار. والقرار كان ولا يزال، بالنسبة لحكام إسرائيل (وخصوصًا الحكومة الحالية المتطرّفة)، مرحلة فاصلة ما بين إخفاق محصود ونجاح مأمول. وتشير استعدادات الجيش الإسرائيلي وتحضيراته ومناوراته، فضلاً عن تهديدات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، إلى أنّ مناخ الحرب هو ما يسود في إسرائيل وأنّ توقيتها ينتظر تحقّق الشروط والظروف واللحظة المناسبة!
لكن ذلك يحصل وسط متغيّرات أساسية على المستوى الإقليمي وحتى الدولي، حصلت ما بين عامي 2006 والعام الحالي (2010). قبل أربع سنوات كانت واشنطن صاحبة قرار راجح في حصول العدوان وفي تحديد أهدافه وفي متابعة مجرياته: من أكبر المسائل حتى أصغر التفاصيل. أما اليوم، فواشنطن خائبة بعدما سقط مشروع بوش الثاني و«المحافظين الجدد». وهي إلى ذلك منصرفة إلى همومها المتزايدة في أفغانستان وباكستان، فضلاً عن سلبيات كبيرة تركتها في الداخل الأميركي وفي المراكز الرأسمالية الكبرى الأزمة المالية التي انفجرت في أواخر ولاية الرئيس الأميركي السابق.
حاولت إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، بدعم من أوساط قيادية في الجيوش الأميركية، الدفع باتجاه تسوية للمشكلة الفلسطينية. الهدف من وراء ذلك امتصاص جزء من العداء ضدّ الولايات المتحدة، ومن المقاومة ضدّ جيوشها المنتشرة في المنطقة، وتوفير ظروف أفضل للحرب الأميركية والغربية على «الإرهاب» الأصولي. لكنّ حكومة إسرائيل رفضت ذلك وأفشلت مهمة جورج ميتشل المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص. وهي توصّلت بعد استنفار كلّ قواها في الولايات المتحدة خصوصًا، إلى فرض التراجع على الرئيس الأميركي. وها هي الولايات المتحدة الآن، تعود في مقاربتها للصراع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني إلى الوضع نفسه الذي كان قائمًا في مرحلة كلّ من الرئيس بوش الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون. يومها أطلقت يد إسرائيل في التعامل مع الملف الفلسطيني فاندفعت قيادتها في مسعى حثيث ودموي لتصفية كلّ المقومات السياسية والإدارية والأمنية والبشرية الفلسطينية، التي من شأنها إعداد القاعدة المادية لإقامة الدولة الفلسطينية العتيدة.
اليوم عادت إدارة الرئيس أوباما إلى ما يشبه ذلك التفويض: فهي قد أقفلت ملف تبايناتها بين «الأصدقاء». قدّمت التغطية الكاملة للجريمة الإسرائيلية في الاعتداء على «أسطول الحرية». انتقلت فجأة من الإلحاح على إدارة مفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى تبنّي مطلب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بجعل المفاوضات مباشرة، ودون قيد أو شرط. إنّها تتبنّى، في الواقع، سياسة وقف المفاوضات مع تصوير الطرف الفلسطيني كأنه هو الذي يرفض المشاركة فيها. يقترن ذلك بتقديم مساعدات نوعية للجيش الإسرائيلي في المجالات اللوجستية وفي التدريب والأسلحة المضادة للصواريخ والطائرات الأكثر تطوّرًا!
بكلام آخر، تحاول إسرائيل ملء جزء من الفراغ الذي تركه الأميركيون. وهي تنفرد تقريبًا، الآن، في إدارة صراعها مع الفلسطيني واللبناني. وعلى غرار ما يوفّره لها الانقسام الفلسطيني من ميزات وفوائد، تسعى الحكومة الإسرائيلية لإعادة شحذ واستخدام سلاح الانقسام اللبناني ــــ اللبناني الذي كان عاملاً أساسيًا في غزوها لبلدنا عام 1982. ويمثّل موعد صدور القرار الاتهامي العتيد للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومضمونه، فرصة ثمينة لإحداث تحوّل ما لمصلحة إسرائيل في صراعها مع المقاومة في لبنان خاصة.
ولقد بات واضحًا من التسريبات المتلاحقة، وحتى من حركة تبديل بعض الموظفين في المحكمة الدولية، أنّ نسبة تسييس القرار الظني قد بلغت مستوى متقدّمًا. ولم يتردّد القادة الإسرائيليون في الإعلان عن أنّ القرار سيتضمّن اتهامات صريحة لأفراد من «حزب الله» في التورّط في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
منذ قمة «شرم الشيخ» إلى قمة نتنياهو ــــ مبارك الأخيرة، تحاول إسرائيل تقديم نفسها بوصفها جزءًا من «محور الاعتدال» العربي. بل هي تقدّم نفسها بوصفها حامية لدول هذا المحور وأنظمته في وجه الخطر الفارسي! وسلاح الانقسام المذهبي أداة أساسية في محاولة رسم خريطة سياسية للمنطقة تتبدّل فيها التحالفات والأهداف والمخاطر والتهديدات رأسًا على عقب!
استنادًا إلى كلّ ما تقدّم وإلى سواه، تتركّز الأنظار على تقرير المحكمة الدولية في الخريف المقبل وعلى تداعياته المحلية والإقليمية المتداخلة. وفي هذا السياق تسعى إسرائيل لتغذية مشروع فتنة في لبنان. وهي قد عادت لإطلاق الوعود بالتدخل النشيط بعد سنوات من الانكفاء القسري. وهذا التدخّل النشيط سيأخذ إذا توافرت الشروط الداخلية اللبنانية الضرورية، شكل عدوان موجّه ضدّ البنية العسكرية والسياسية لحزب الله في لبنان.
ولقد أصاب العماد ميشال عون، رئيس «التيار الوطني الحر»، حين ربط ما بين حصول عدوان إسرائيلي وحصول فتنة داخلية تسهّل تنفيذ العدوان وتوفّر له أحد أهم شروط نجاحه. ويكرّر القادة الصهاينة، عسكريين وسياسيين، كلّ يوم إعلان نوايا العدوان العتيد، لتحويل هذا الأمر مسألة «عادية» ينصبّ الحديث عن موعد حصولها، لا عن منع حصولها. ولقد انخرط الرئيس الفرنسي في هذه اللعبة عن قصد على الأغلب، حين أعلن أنّه أجرى اتصالاً برئيس الوزراء الإسرائيلي من أجل تحييد القوات الفرنسية العاملة في نطاق قوات «اليونيفيل» المعزّزة عن الضربة الإسرائيلية المتوقّعة!

تحاول إسرائيل تقديم نفسها كجزء من محور الاعتدال العربي
لا شيء قدريًا في هذا الصدد. وهناك متّسع من الوقت من أجل إحباط مخطط الفتنة، وخصوصًا بعد كشف جزء مهم من شبكات التجسّس الإسرائيلية وأخطرها في مجال الاتصالات. وينبغي المضيّ في هذا الأمر حتى كشف ما بقي من الشبكات التي هي إحدى أدوات الفتنة، فضلاً عن دورها الأكيد في توجيه التحقيق وتزوير الحقائق وفبركة الأدلة وما سوى ذلك من الأدوار القذرة والخطيرة.
وتستطيع السلطة أن تلعب دورًا أساسيًا في هذا الأمر. ومن الضروري تشجيع مساهمات رئيس الجمهورية وإجراءات قيادة الجيش، حيث ينتظرهما الكثير أيضًا، من أجل محاصرة عوامل الانقسام المشبوهة وضبط الأمن والشارع خصوصًا. ولعلّه من المفيد دعوة «مؤتمر الحوار» الآن إلى اجتماع لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وخصوصًا لجهة التحذير من استخدام المحكمة الخاصة في إغراق لبنان في الفتنة والانقسام والإجرام الإسرائيلي ربما، دون التقدّم ولو خطوة واحدة في معرفة قتلة الرئيس الحريري ومن ثمّ في معاقبتهم.
ويبقى أن نكرّر ما رددناه دائمًا، من أنّ الفتنة المذهبية تحتاج إلى معالجة جذرية عبر مقاربات وطنية شاملة توفّر إطارًا لتوحيد الأكثرية الساحقة من اللبنانيين حول أهداف صيانة بلدهم وإصلاح نظامه وتدعيم استقلاله وسيادته ومعالجة أزماته المتنوّعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية...
يجب عدم الاكتفاء بلعن الفتنة ومن أيقظها... إحباطها أولوية واجبة وممكنة بالتأكيد.
* كاتب وسياسي لبناني