سعود المولى * كان ذلك في أواخر صيف 1972... كنت قد خرجت من منظمة العمل الشيوعي على رأس انشقاق صغير في القطاع الطلابي ابتدأ لحظة عملية ميونيخ التي قادها أبو داوود... وقررنا بعدها الانضمام إلى حركة فتح من خلال تيارها الثوري اليساري الذي كنا نعرف من رموزه منير شفيق. تعرّفنا من خلال أبو فادي (منير) إلى رفيقيه أبو إبراهيم (ناجي علوش) وأبو داوود (محمد داوود عودة). وتعرّفنا أيضاً إلى صبري البنا (أبو نضال)، وذلك في زيارة خاصة لبغداد يومها. وفهمنا أننا جزء من تنظيم يساري عربي يختلف عن الأحزاب الموسكوبية في تشديده على محورية القضية الفلسطينية كرأس حربة للثورة العربية الشاملة، وعلى دور الجماهير من خلال الكفاح المسلح وحرب الشعب. كانت ماوية منير شفيق تستهوينا، وهو الخارج من تجربة الحزب الشيوعي الأردني... فيما اكتشفنا أن قومية ناجي علوش وصبري البنا ومحمد عودة تعود إلى ماضيهم البعثي المشترك. ولعلهم مروا بتجربة مع علي صالح السعدي والحرس القومي، ثم مع ما سمي يسار البعث، ولم تعجبهم نخبوية وثقافوية تيار حزب العمال العربي الثوري اللاحق، فاختاروا كما غيرهم نضالية حركة فتح وثورويتها وجماهيريتها يومذاك.
ومن خلال هذا الرباعي الفتحاوي الثوري تعرفنا أيضاً إلى كل التشكيلة اليسارية الفتحاوية المتنوعة التي جاءت من الأردن بعد أيلول 1970، حاملة معها شحناً ثورياً عالياً وتناقضات فكرية وخلافات شخصية كان لها الدور الأبرز في خياراتها. جاء يساريو فتح من عمّان وهم يحلمون بتجربة ثورية أفضل لا تكرر أخطاء اليسار المتطرف في الأردن (شعارات كل السلطة للمقاومة ولا سلطة فوق سلطة المقاومة... وكل السلطة لمجالس العمال والفلاحين... إلخ). لكنهم كانوا أيضاً ناقمين على قياداتهم الفتحاوية التي فرطت بالجماهير الأردنية وتركتها وغادرت المدن إلى أحراش جرش وعجلون، حيث سهلت تصفيتها في تموز 1971. أذكر هنا من الأصدقاء اليساريين جماعة لجنة الأردن في سوريا: قدري وكفاح وجمعة، والشهيد الدكتور حنا ميخائيل (أبو عمر) وزوجته جيهان الحلو وشقيقتها شادية، ونزيه أبو نضال، وأبو حاتم، وأبو نائل، وأبو خالد الصين، والمرحوم صخر، ويحيى يخلف وأحمد عبد الرحمن ونبيل عبد الرحمن... إلخ. وذلك قبل أن ينضم إليهم عضو اللجنة المركزية المرحوم أبو صالح ومعه الضباط القادمون من لواء اليرموك (أبو خالد العملة وأبو موسى).
كان أبو داوود نخلة عمّان وقائد الميليشيا فيها، الذي لم يقبل بما جرى بعد أيلول من حلّ للميليشيا ونزع سلاحها، وكان موقفه هو موقف معظم اليسار الفتحاوي يومذاك. إلا أن ردود هذا اليسار تفاوتت ما بين «التناقض والممارسة» لمنير شفيق و«نحو ثورة جديدة» لناجي علوش، وما بين دعوة إلى تحالف يسراوي واسع يتغطى بالاتحاد السوفياتي، وأخرى ماوية صينية تريد حرب الشعب طويلة الأمد، وتيار ثالث يدعو إلى الخط الفيتنامي... إلخ. وصولاً إلى انحياز أبو نضال لصف الإرهاب الثوري مدعوماً بعلاقته بالنظام العراقي يومذاك.
هتفتُ في تظاهرة انطلقت من جامعة بيروت العربية: «أبو داوود لعيونك والكوفية... شعبي بعمّان صار كله فدائية»
اختار أبو داوود العمل مع أيلول الأسود ليرتبط بعلاقة خاصة مع أبو إياد استمرت حتى وفاة الأخير. وبعد عملية ميونيخ الشهيرة (أيلول 1972)، مارس أبو داوود ورفاقه طريق المغامرات العسكرية في الأردن، انطلاقاً من تقدير مفاده أن الجرح لا يزال طرياً والجماهير لا تزال معبأة، ما يجعل أية عملية عسكرية ولو انقلابية تحظى باحتضان جماهيري وتعيد الثورة إلى موقع تفاوضي قوي مع النظام الأردني. يومها فشلت محاولة أبو داوود الجريئة، أو لعلها أُفشلت من داخل حركة فتح. واعتُقل مع مجموعته قبل تنفيذ العملية. أذكر أنني هتفت في تظاهرة انطلقت من جامعة بيروت العربية: «أبو داوود لعيونك والكوفية... شعبي بعمّان صار كله فدائية». ثم خرج أبو داوود من سجون الأردن ليمارس دوره مسؤولاً عن جهاز خاص في فتح (جهاز الحركة الوطنية اللبنانية)، كانت مهمته تدريب مناضلي الأحزاب اليسارية وتأطيرهم وإعدادهم للحرب. وكنت ورفاقي الخارجين من الأحزاب أول من عمل معه على تدعيم هذا الجهاز وتقويته. وقد كتب أبو داوود في مذكراته عن تلك التجربة التي قادته وقادتنا إلى زواريب البرجاوي ورأس النبع وخندق الغميق والشياح... وصولاً إلى قمم صنين.
كانت تلك السنوات سنوات كل التناقضات والصراعات داخل الثورة الفلسطينية. اختلف اليسار الفتحاوي على الموقف من حرب تشرين ومن طبيعة نظام السادات. وبعد طرح برنامج النقاط العشر، انقسم اليسار الفلسطيني في مسألة الدولة الفلسطينية وطرق النضال لتحقيقها. إلا أن الانقسام الحقيقي جاء لاحقاً مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية. اختلف منير شفيق ورفاقه أبو إبراهيم وأبو داوود وأبو نضال، وتكرّس الانشقاق بينهم بكراسات كتبها ناجي علوش تشرح أسباب الخلاف. ثم أسس ناجي حركة باسم الثورة العربية الديموقراطية الشعبية تحوّلت إلى منظمة عربية ضمّت خصوصاً تونسيين خارجين من تجربة العامل التونسي. ولمع نجم أبو نضال في الحرب على حركة فتح وقياداتها. وصرنا نحن ما عرف باسم السرية ثم الكتيبة الطلابية.
في كل هذه المحطات وما تلاها، لم يتخلَّ أبو داوود عن ثوريته على الأنظمة العربية وعن قوميته الشعبية التي كان يرى أنها حصن فتح والثورة. لم ينضم إلى تيار القرار الوطني المستقل ولا إلى تيار الماوية الحالمة المقاتلة من أجل الثورة العالمية. اكتفى بالتموضع الفتحاوي الداخلي على أمل تعديل موازين القوى الداخلية من خلال عمل خارجي. ولعله شارك أبو إبراهيم وأبو نضال في محاولة الانقلاب التي جرت ربيع 1978، ولا نعلم صحة اتهام ابو نضال له بأنه هو وناجي أفشلا المحاولة وباعاها إلى أبو إياد. انتهت علاقة الثلاثي بقسوة. أصدر أبو نضال حكمه بالإعدام على رفاق الأمس وتمكن من اغتيال عدد من كوادر تنظيم ناجي علوش، فيما هرب الباقون وتشتت شملهم في منافي الأرض. وعاد أبو داوود إلى حضن فتح وذراع أبو إياد. واستمر وفياً للحركة ولفلسطين يقدم الوحدة الوطنية والنصيحة والرأي والمشورة من دون أن يكون فاعلاً في الصراعات الداخلية. لا بل اختار المصالحة والمهادنة الداخلية والحوار حتى في أقسى لحظات الانقسام مثل انشقاق فتح الانتفاضة عام 1983 أو الصراع الدائر حول أوسلو وحول ما بعد أوسلو.
عن هذه الروح الفتحاوية التي لم تعد موجودة اليوم، أذكر أنني كنت أراجع يوماً الشهيد أبو جهاد في موضوع يتعلق بالداخل، فطلب مني الرجوع إلى الشهيد ماجد أبو شرار. فدهشت لمعرفتي أن ماجد كان محسوباً على التيار اليساري السوفياتي المعارض لتيار أبو جهاد. يومها قال لي أبو جهاد: «لا تندهش، المهم أن تعرف أن ما يجمعنا هو فلسطين... وكلنا وطنيون في خدمة فلسطين». وحين تعرض أبو السعيد (خالد الحسن) لأزمة صحية كبيرة (منتصف الثمانينيات)، طلب مني أبو جهاد (وكنت في فرنسا يومها) أن أسهر قربه في المستشفى الفرنسي الذي نقل إليه. وكنت وأنا قرب سريره في المستشفى أتحاور معه فيما كان يتلقى اتصالات يومية من أبو جهاد وأبو عمار و... أبو صالح. وكنت أمازحه قائلاً: «يا أبو السعيد، يبدو أنكم ضحكتم علينا، فلا يمين ولا يسار عندكم، بل أنتم ماسونيون»... يومها رد قائلاً: «نعم نحن ماسونيون من أجل فلسطين». وكان أبو السعيد من إسلاميي حزب التحرير قبل التحاقه بفتح، وكان هو وأبو صالح على طرفي نقيض في كل شيء باستثناء موقفهما من عرفات وقيادته للحركة. كذلك فإن أبو صالح نفسه حين أرسل ابنته للدراسة في فرنسا طلب مني، أنا الذي كنت أعارض تياره، الاهتمام بها. وبالفعل صرنا يومها من أعز الأصدقاء.
هكذا كان الاختلاف السياسي يومها لا يفسد وداً بين الناس، ولا يورث أحقاداً وعداوة.
وكان هذا موقف معظم قادة حركة الانتفاضة الذين ما تركوا علاقتهم بحركتهم الأم، وظلوا يحاورون ويحاولون رأب الصدع رغم بعد الشقة، وكان أبو داوود وسيطهم في ذلك. وقد رجع الكثيرون منهم إلى تونس ومنها إلى غزة وصاروا اليوم من قادة الداخل الفلسطيني والمجلس الثوري.
لم يغفر الصهاينة لنخلة عمّان دوره في أيلول الأسود، وخصوصاً في ميونيخ. وحاولوا اغتياله مراراً، ما اضطره للاختفاء في بلدان شرقية حتى انهيار المنظومة السوفياتية الذي تزامن مع اغتيال صديقه ورفيق دربه أبو إياد في تونس قبل بدء عملية «تحرير الكويت».
رحم الله أبو داوود وكل شهداء الثورة الفلسطينية. نتعلم منهم دروس الوحدة مع الخلاف، وممارسة الوحدة في ذروة الصراعات الداخلية. وكلهم كانوا يحفظون مقولة تقديم التناقض الرئيسي على كل التناقضات الثانوية حتى الأساسية منها... إلى حين تحرير فلسطين. فقد كانوا جميعاً أبناء ذلك الجيل الذي وعى التجربة الجزائرية وعاشها وعاش التجربة الفيتنامية ودرس التجربة الصينية ووعاها... وصولاً إلى تجربة الثورة الفلسطينية نفسها منذ ثورة البراق 1929. كم نحن اليوم بحاجة إلى أمثال أبو داوود وأبو إياد وأبو جهاد وأبو عمار وجورج حبش والشيخ أحمد ياسين، لكي تتحقق الوحدة الوطنية على ثوابت الشعب الفلسطيني التاريخية ولكي تتحقق انطلاقة جديدة للنضال الوطني الفلسطيني.
* كاتب لبناني