محمد بنعزيز*في هذه المدينة المغربية، تجري محاكمة سبعة أعضاء من جماعة العدل والإحسان... وفي تلك، سيحاكم أربعة... الفاصل بين جلسة محاكمة وأخرى طويل جداً. سابقاً، اعتُقل منشد الجماعة بسبب مجالس النصيحة أو بسبب الخيانة الزوجية. بداية صيف 2010 يتصدر محامٍ عدلي الصفحات الأولى للجرائد. الدولة تقول إنه استنجد بها لأنه حاول الانشقاق عن الجماعة فتعرض للترهيب. الجماعة تقول إن الدولة تحاول اختراق الجماعة عبر تجنيد بعض أعضائها للتجسس.
بمثل هذه الأخبار تتصدر الجماعة المشهد الإعلامي، والجماعة جسم سياسي دعوي... ما وزنه؟ يقول المراقبون إنه كبير جداً... يكررون «أكبر جماعة إسلامية في المغرب». كيف عرفوا؟ الحقل السياسي بكامله غير مهيكل، الحكومة نفسها هجينة، فيها يمين ويسار وإسلاميون ومتصوفة ووزراء سيادة وممثلو مناطق... كل ألوان الطيف. والمعارضة كذلك... هذه نتائج منطق التوافق والإجماع. فكيف نفرز كل جسم لنقيسه دون انتخابات شفافة؟
لنترك التدقيق في حجم هذا الجسم، ولنرَ شكله. واضح أنه مستدير ومتماسك. مستدير بدليل أنه يتدحرج بسهولة من عهد الحسن الثاني إلى عهد محمد السادس ويتكيف مع الظروف ويقوّي نفسه. متماسك بدليل أنه لا يتفتت، فجماعة العدل والإحسان لم تعرف انشقاقات تضعفها. وبذلك، تتحصن الجماعة في انتظار أزمنة أفضل. وهذا التحصن يخلق ركوداً تخشاه السلطة، لذا تحرص على استفزاز هذا الجسم ليخرج من مخبئه لينكشف لها.
وهذه سياسة تمارسها الدولة على الصعيد العمراني، إذ بعد تفجيرات 16 أيار/ مايو 2003، التي جاء منفذوها من أحياء صفيحية متكدسة، حرصت الدولة على تفكيك تلك العشوائيات ونقل سكانها إلى أحياء جديدة... عبارة عن عمارات وطرق مضاءة لتتمكن الشرطة من أن ترى وتراقب ليلاً ما يجري.
العدل والإحسان ليست حياً صفيحاً، بل هي تنظيم يجري استفزازه ليتدحرج فيصطدم بمحيطه فيتفكك. لكن يبدو أن الجسم العدلي ما زال متماسكاً، يتحصن ضد ما تسميه نادية ياسين، ابنة شيخ الجماعة، «مساومات يحاول بها النظام ترويض كل معارضيه» ليصبحوا مجرد كومبارس في البرلمان.
ما الأسباب التي تضمن ذاك التماسك؟ هناك أسباب ذاتية وموضوعية. الأسباب الذاتية تخص الجماعة، والأسباب الموضوعية تتمثل في خصائص اشتغال النسق السياسي المغربي. الأولى تقوي التماسك، والثانية تفرض عليها مزيداً من التدحرج، أي تختبر التماسك.
في الأسباب الذاتية نجد: أولاً، شدّة شروط الاستقطاب لدى الجماعة. فهي لا تقبل أي شخص يتطوع إلا بعد اختبار منهجه التربوي ليكون ولاؤه للتنظيم متيناً. في حوار مع ناشط عدلي جمد نشاطه دون إعلان ذلك احتياطاً قال: مثلا يوصي منخرط عريق بمنخرط جديد خيراً، بعد أن يكون خبره، كما يجري استقطاب منخرطين من المؤسسات التعليمية منذ صغرهم لتنشئتهم على الولاء للشيخ، ومن معايير الانتقاء أن يداوم المرشح للانخراط على حضور الرباط الأربعيني، وهو موعد سنوي صيفي يدوم 40 يوماً يخصص للنصيحة والمذاكرة.
ثانياً: خصائص الخطاب الدعوي للجماعة: مرن، فيه نفحة صوفية متجذرة في المجتمع المغربي، أي إن الخطاب مصمم ليناسب البيئة التي يتوجه إليها.
ثالثاً: صورة أعضاء الجماعة عن أنفسهم. يشبّهون أنفسهم بالنبي يوسف، أي إن ما يتعرضون له سياسياً هو ابتلاء ديني سيخرجون منه آمنين... تمنت ابنة المرشد أن تدخل السجن لتحفظ القرآن. تريد البلاء لأن الله سينصرها على عدوها. انتهى النقاش.
رابعاً، يتّسم خطاب الجماعة بتفاؤل سيكولوجي في محيط سياسي محبط. فقد وعد الشيخ ياسين برؤية ستتحقق فيها القومة، أي الثورة.
خامساً، علو مطالب الجماعة. فالشيخ السي عبد السلام لا يطالب بأقل من خلافة إسلامية. هذا المطلب الطوباوي يوفر للمحبطين بكارة سياسية مصونة تضمن لهم عدم التجريب، لأن الخلافة لم تقم بعد. لننتظر. ومن هنا يعتبر العدليون أن حزب العدالة والتنمية تورط حين شارك في الانتخابات.
سادساً، بلاغة الأعضاء، وخاصة نادية ياسين التي تقدم تحليلاً لموقف الجماعة، مشبعاً بالاستعارات والتلميحات الساخرة: ترويض، البرلمان محارة فارغة... وحلقة بهلوانية... علاقتنا بالمرشد روحية أكثر منها تنظيمية...
سابعاً، وضوح موقف الجماعة: لا للمشاركة السياسية وفق قواعد اللعبة الحالية، لا للاعتراف بشرعية النظام... لا للعنف، لا للسرية ولا للتمويل الخارجي... وهذه ميزة مقارنة بتنظيمات إسلامية أخرى.
بفضل هذه الصفات الذاتية، تتحرك الجماعة في محيط صعب، يتسم بـ:
أوّلاً: يقظة النظام. فقبيل احتمال تحقق «رؤيا 2006»، أي في كانون الأوّل/ ديسمبر 2005، أقال الملك مدير الاستخبارات وعيّن بدلاً منه الخبير الرقم واحداً في الإسلاميين، وهو عبد اللطيف الحموشي، وقد كان قبل 1990 طالباً في جامعة فاس ولم يكن يبرح حلقات طلبة جماعة العدل والإحسان. بعد قضية المحامي في فاس هذا الصيف، أكد بيان مجلس إرشاد الجماعة «أن التدبير الاستخباري للاختلاف السياسي له عواقب وخيمة جداً على البلاد، ولا يمكن أياً كان أن يتحكم في نتائجه».
ثانياً: النظام لا يصطدم مباشرة بالجماعة، بل يسعى لإنهاكها. يُعتقل أعضاؤها لساعات، لليلة، ثم يطلق سراحهم وهكذا... أي ليس هناك محاكمات كبيرة وطويلة. وهذه مقاربة جديدة ذكية، مقاربة لا تمنح نشطاء الجماعة فسحة لبناء قضايا كبيرة لتأليب الرأي العام على السلطة. كيف يمكن بناء قضية على اعتقال شخص خمس عشرة ساعة؟ وهذا الاعتقال مبتكر أيضاً، فالمعتقل ليس في زنزانة، بل في مكتب ينتظر أن يُستمع إليه وليس التحقيق معه. ينتظر من الحادية عشرة صباحاً إلى الثانية بعد منتصف الليل، فيتأسف له المحقق بأدب على التأخير الخارج عن إرادته.
ثالثاً، أدّت هذه الأساليب في الكر والفر إلى إنهاك الجماعة، وخاصة أن منخرطيها الرئيسيين، الذين سيطروا على الحرم الجامعي كشبان في العقد الأخير من القرن الماضي، قد بلغوا الأربعين وأكثر، وصار هامش تحركهم يضيق ومسؤولياتهم الأسرية تتزايد... وما عادوا شرسين كما كانوا في الماضي... إنه قانون الزمن.
رابعاً، تبرز السلطة أن الجماعة تتصرف خارج القانون. لذا يدعوها الناطق الرسمي باسم الحكومة إلى الالتزام بالقانون. وهذا طلب يجد صداه لأن خصوم الجماعة، ضمن الهيئات السياسية، أكثر من أنصارها.
خامساً، لا تعرض الحكومة على الجماعة تعاقداً سياسياً لتقبل أن تتخلى عن موقف المقاطعة، فلماذا تتنازل الجماعة وتقبل كل الوضع الذي احتجت ضده مجاناً؟
ما هي نتيجة الكر والفر؟
يعترف تمام حسان بأن مصر صارت «إسلامية» لأن الإسلاميين، وإن لم يسيطروا على الدولة، سيطروا على المجال العام... بينما الفضاء الاجتماعي في المغرب ــــ حسب الباحث المصري ــــ ما زال بعيداً عن سيطرة الإسلاميين، وهو يتوقع أنه من غير الوارد سيطرتهم عليه رغم أنهم الأقرب في معظم الأحوال من الشارع المغربي.

أعضاء الجماعة متدينون أكثر ممّا هم مسيسون، وهم بعيدون عن الخطر الذي تمثله السلفية الجهادية
الدولة قوية وهي تحاصر خصومها بفعالية، ومع ذلك يتوقع حسان «أتصور أنه يمكن بسهولة إدماج «العدل والإحسان» سياسياً».
وهذا إحساس يراود الكثيرين، نظراً للطابع الصوفي للجماعة ولمنهجها التربوي الفرداني، فمنخرطوها متدينون أكثر مما هم مسيسون (هذا مطلب السلطة أيضاً)، وهم بعيدون عن الخطر الذي تمثله السلفية الجهادية... ومن هنا أرى أن الجماعة هي عامل استقرار في المغرب... غير أن ذاك الإحساس بالتشابه يخفي أموراً أخطر، فتشابه منهج الجماعة ومنهج تدبير السلطة للحقل الديني، يجعلهما يتنازعان على المريدين والرعايا أنفسهم، كون شيخ الجماعة ووزير الأوقاف من مريدي الطريقة الصوفية البودشيشية نفسها، يستخدمان المعجم الورع نفسه عن تزكية النفس ولقاءات الذكر والمناصحة... أمر يهدّئ الخواطر دينياً، لكنه مزعج سياسياً. لذا، فالتشابه سبّب نزاعاً لا في وحدة. فإذا كانت الدولة تتمحور سياسياً حول أمير المؤمين، فإن الجماعة تتمحور روحياً حول مرشدها. هذا التمحور هو نقطة قوة كل منهما، غير أن أمير المؤمنين ورث والده، بينما شيخ الجماعة لا وريث له، وهو حسب استطلاع إلكتروني السبب الرئيسي لتماسك الجماعة. ولم يتوقع، وفقاً للاستطلاع نفسه، إلا ربع المصوتين أن تتولى نادية ياسين الزعامة... لم يقبل الإسلاميون تولي المرأة أمر الرجال.
لكن ذاك التشابه سيكون، بعد رحيل الشيخ، سلّماً مفيداً لإنزال الكثيرين من الشجرة ليعبروا إلى الضفة الأخرى... سيستقبلهم وزير الأوقاف بالأحضان، وخاصة أنهم ملّوا من المعارضة ومن وضع لا جهاد، لا قومة، لا اقتراع... لقد وصلوا مشارف الستين من أعمارهم... دون إنجاز... هؤلاء سيفضلون الخروج من جلباب الشيخ والتعاون مع السلطة لبناء الوطن بدل الجلوس في غرفة الانتظار.
* صحافي مغربي