سعد الله مزرعاني*حتى تاريخ التسريبات الإعلامية والسياسية في الصحافة الألمانية والفرنسية والكويتية (ومن ثمّ من جانب رئيس الأركان الإسرائيلي وصحيفة هآرتس الإسرائيلية أيضًا)، كانت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان خارج النقاش والسجال والصراع الحاد. صحيح أنّ التقرير السابق للمدّعي العام قد أشار إلى الحصول على «معلومات صلبة» تحتاج إلى مزيد من المتابعة، إلا أنّ الروتين هو ما كان يطبع عمل المحكمة مترافقًا، على نحو شبه منهجي، مع استقالات من مراكز حساسّة فيها: قضائية وإدارية وإعلامية. وقد أضفى ذلك أيضًا صبغة من الرتابة وحتى العجز، على عمل المحكمة وعلى قدرتها على إنجاز المهمة التي أُنيطت بها.
وفي مجرى ذلك كانت تتحسّن العلاقات السورية ــــ السعودية، والسورية ــــ اللبنانية. والمقصود باللبنانية هنا، علاقة تيار «المستقبل» مع السلطات السورية. ومن ثمّ العلاقات الرسمية بين البلدين، باعتبار أنّ رئيس تيار «المستقبل» السيّد سعد الحريري، بات يشغل أيضًا منصب رئيس مجلس الوزراء في لبنان. ولقد تعدّدت في هذا السياق لقاءات «القمة» بين الرئيس السوري ورئيس الوزراء اللبناني. وكانت العين السعودية ساهرة أبدًا على متابعة تحسّن العلاقة بين الأسد والحريري، وبإسهام مباشر ومثابر من نجل الملك السعودي، الأمير عبد العزيز بن عبد الله.
لا نضيف شيئًا إلى معلومات أحد إذا ذكّرنا بأنّ سهام الاتهام باغتيال الحريري كانت موجّهة، على امتداد أكثر من أربع سنوات، إلى «نظام بشار»! وحين جرت المصالحة بين النظامين السعودي والسوري ومن ثمّ بين رئيس تيار «المستقبل» والرئيس السوري، ساد الانطباع بأنّ ملف المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قد وُضع في ثلاجة الزمن والنسيان ولعبة المصالح التي هي الأبقى والأرسخ من كلّ «حقيقة» و«عدالة» وقيم!
إلا أنّه تبيّن أنّ الأمور ليست على هذه البساطة. وهنا بدأت موجة التسريبات التي كان قد مهّد وأسّس لها التقرير الأخير للمدّعي العام للمحكمة السيّد دانيال بلمار. فجأة اتجه الاتهام الذي كان موجّهًا إلى دمشق و«النظام الأمني السوري ــــ اللبناني»، إلى «حزب الله» عبر عناصر فيه استُدعيت للتحقيق بصفة شهود ليس إلا!
ولم يكن للتسريبات من جهة، وصمت فريق المحكمة عن هذه التسريبات، من جهة ثانية (أي إنّه لم يلجأ إلى التوضيح أو النفي كما كان يفعل في السابق)، أن يثيرا ما أثارا لولا تدخلان أضفيا على الأحداث طابعًا جدّيًا وخطيرًا، بل دراماتيكيًا: الأوّل، هو تبلّغ السيد حسن نصر الله من الرئيس سعد الحريري، في لقائهما الأخير قبل بضعة أسابيع، أنّ «المحكمة تتجه كما يبدو، إلى توجيه الاتهام لعناصر من حزب الله». والثاني هو دخول رئيس أركان الجيش الإسرائيلي على خط المحكمة ليؤكّد أنّ الوضع اللبناني «سيشهد تدهورًا في أيلول المقبل، نتيجة صدور القرار الاتهامي بشأن قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري».
لا نخفي أنّ هذه التسريبات الاتهامية قد اقترنت بتطوّرات عدّة ما زالت تتواصل على مستوى لبنان والمنطقة، أي في المديين المحلي والإقليمي. ومن أبرز هذه التطوّرات ازدياد التعدّيات والاستفزازات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية. وهذه التعدّيات والاستفزازات قد اقترنت بارتفاع نبرة التهديدات بشنّ عدوان على لبنان. وقد ضربت لهذا العدوان مواعيد، كانت تتحدّد أكثر، بمقدار ما كان يجري علاج ما شاب العلاقة الأميركية ــــ الإسرائيلية من تباين محصور تحديدًا، في الملف الفلسطيني.
لقد خرجت حكومة نتنياهو رابحة في «كباشها» الصعب، لكن «الودّي وبين أصدقاء»، مع إدارة الرئيس باراك أوباما. وأهم ما كسبته إسرائيل في معركتها مع الإدارة الأميركية هو إطلاق يدها في الموضوعين اللبناني والفلسطيني. نجم ذلك عن انشغال الإدارة الأميركية في الوضعين العراقي والأفغاني من جهة، وعن ضغوط صهيونية هائلة استنفرت جميعًا للتهديد بمعاقبة الرئيس الأميركي وحزبه في الانتخابات الفرعية وفي الانتخابات الرئاسية على مسافة أقل من سنتين لبدء حملة التجديد للرئيس الأميركي.
لا عجب في مجرى ذلك أن تجد إسرائيل في صدور القرار الاتهامي العتيد عن المحكمة الدولية، فرصة ذهبية للعمل ضدّ لبنان عمومًا وضدّ «حزب الله» خصوصاً.
ويستطيع أيّ تحليل موضوعي أن يقود حكمًا، إلى أنّ بمقدور إسرائيل والحركة الصهيونية التأثير في المحكمة نفسها، ومن داخلها بالذات! ويجب التفتيش في هذا الصدد عن التأثير في حركة الاستقالات أو عمليات الاستبدال التي تواترت بين موظفين كبار في المحكمة. وكذلك في ما تملكه القوى الصهيونية في إسرائيل وخارجها، وخصوصًا في الولايات المتحدة، من شبكات وعلاقات وتأثيرات ومغريات لمسنا بعض مثيلاتها في لبنان نفسه، من خلال شبكة العملاء التي يبدو أنّ الذي انكشف منها، حتى الآن، رغم خطورته الكبيرة، ليس الأعظم!

أهم ما كسبته إسرائيل في معركتها مع الإدارة الأميركية هو إطلاق يدها في الموضوعين اللبناني والفلسطيني
المقلق أيضًا من بين هذه التطوّرات أنّه في ذروة المناورات والتعدّيات والاستعدادات والتهديدات الإسرائيلية ضدّ لبنان والمقاومة، كانت تستعر حملة المطالبة بنزع سلاح «حزب الله». لم تراعِ هذه الحملة التي شاركت فيها، بحدّة، مواقع روحية مؤثّرة، طبيعة المرحلة ولا مبدأ عدم جواز ملاقاة المطالب الإسرائيلية على منتصف الطريق!! ولقد جاءت شهادة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية في الكونغرس الأميركي السفير السابق في لبنان جيفري فيلتمان، وتصويره «حزب الله» على أنّه «القوة الإرهابية» «الأقوى والأخطر في العالم»، لتضفي على مجمل الصراع سمة من الخطورة لم يعد من الممكن الاستهانة بها.
لقد بدا من خلال كلّ فصول هذا المشهد والمشاركين فيه، بمن فيهم الحكومة المصرية، أنّ ثمّة قرارًا بالعمل ضدّ المقاومة، وأنّ إسرائيل هي اللاعب الأساسي في ذلك، وأنّ التفويض الذي حصلت عليه حيال الملفين اللبناني والفلسطيني يقترن بدعم نشيط وبتغطية واضحة لخطواتها العدوانية من فريق نشيط في الإدارة الأميركية، ومن ركن مؤثّر في محور «الاعتدال العربي».
هل يمكن بناء سيناريو عدواني على هذه التطوّرات المتلاحقة والمترابطة والمتنوّعة والخطيرة؟ لا شكّ في ذلك. هل يمكن عزل ملف المحكمة الدولية عن هذا السيناريو المحتمل؟ يستحيل ذلك!
لكن رغم كلّ النوايا الإسرائيلية ورغم رغبات غير بريئة من عدد من القوى المحلية الحزبية والدينية، ورغم الالتباس السعودي الخبيث كالعادة، فإنّ ملف المحكمة قد أُشبع تسييسًا و«هرغلة» وتزويرًا... حتى يثبت العكس! والعكس ليس كما يرغب البعض في إبعاد التهمة عن هذا الفريق وإلصاقها بفريق آخر حسب المصالح والضغوط والتدخلات والمخططات، بل عبر إصدار قرار اتهامي جدي ومسنود ومقنع على الأقل، في تبرير الاشتباه أو الاتهام أو الظن.
حتى ذلك التاريخ ستبقى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي المشتبه فيه الأساسي. وعلى هذا الأساس يجب أن يتصرّف كلّ حريص على لبنان، وعلى سلامه الأهلي، وعلى دوره المميّز في التضحية والمقاومة والتحرير، وحتى على «الحقيقة» بشأن الاغتيالات فضلاً عن الحرية والسيادة
والاستقلال!
* كاتب وسياسي لبناني