حسام كنفاني«شعبنا الفلسطيني تعرّض لإرهاب دولة عندما هاجمت إسرائيل قافلة الحرية، والشعب الفلسطيني والعالم أجمع يواجهان هذا الإرهاب»، هذا ما قاله الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس في بيت لحم أمس.
الكلام جميل وواقعي، وبنبرة عالية لم نعتدها من مسؤولي السلطة، لكن أين تطبيقه العملي؟ سؤال لا بد من أن يطرح، ولا سيما أن الفعل الفلسطيني يناقض القول الذي خرج به أبو مازن قبل ساعات من لقائه المبعوث الأميركي جورج ميتشل للدخول في جولة جديدة من مفاوضات التقارب غير المباشرة.
تقارب مع «إرهاب الدولة»، وصولاً إلى مساومة وتسوية وسلام (بعد عمر طويل).
لا رابط واقعيّاً بين كلام عبّاس وفعل السلطة الفلسطينية. من غير المنطقي المباشرة، بهذه السرعة» في المفاوضات، في وقت ينشغل فيه العالم بإدانة الإجرام الإسرائيلي. كان على السلطة الفلسطينية، على الأقل، تحيّن فرصة الغضب الدولي وإضفاء بعض المخاطر على مفاوضات التقارب، التي جهدت الولايات المتحدة لإطلاقها. لم تكن لتلقى لوماً من أحد، بل على العكس، ستستقطب محاولات استرضاء جديدة توظفها في عمليتها التفاوضية. لكن وكالعادة، فإن «أبطال» تضييع الفرص أبوا إلا أن يضمّوا الظرف الحالي إلى اللائحة، حتى لم يكلفوا أنفسهم عناء التلويح بإمكان مراجعة الموقف من المفاوضات، أو حتى رمي الكرة مجدداً في ملعب الجامعة العربية وموقفها المستجد. إلا أن كل هذا لم يحدث، أبو مازن سارع إلى التطمين بأن المفاوضات ستبقى والجريمة الإسرائيلية لن تؤثّر بها.
الجريمة وما تلاها كانت تستحق من القيادة الفلسطينية وقفة تأمّل، ليس في المجزرة بحد ذاتها التي اعتاد الشعب الفلسطيني على مثيلاتها طوال عمر الصراع، بل في مسارها السياسي. وقفة تأمل تخرج عنها مواقف غير فولكلورية، كالحداد والإضراب والتظاهرات. ربما كان الأجدر التوقف مليّاً أمام نقاشات مجلس الأمن ومحاولة استشراف المرحلة المقبلة الخاصة بالمفاوضات، التي لا شك في أنها ستفشل.
ما حدث في مجلس الأمن كان كاشفاً لجهة العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. نقاشات مستفيضة استمرت حتى ساعات الصباح الأولى لمحاولة إمرار البيان التركي الذي يدين الاعتداء الإسرائيلي، الذي لم يكن بحاجة إلى توضيحات. تفاصيله ظاهرة للعيان ولا شيء يبرر الجريمة التي ارتكبت في عرض البحر. هذا كان موقف دول العالم أجمع، منها الدول التي تصنف في خانة الصديقة لإسرائيل. لم تسع دولة في العالم إلى محاولة تبرير المجزرة الإسرائيلية أو تخفيف وقعها. الولايات المتحدة كانت استثناء. هذه المرة ليست كالعادة، هذه المرة خارقة للعادة، ولا سيما بعد الفترة «العصيبة» التي مرت بها العلاقة بين الدولة العبرية والولايات المتحدة.
فترة دفعت الكثير من المراهنين على الموقف الأميركي إلى القول إن سياسة واشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما ستكون مختلفة، وبدأوا يروّجون لضماناته لاستئناف المفاوضات غير المباشرة، وفي مقدمهم السلطة الفلسطينية. لكن أياً من مسؤولي السلطة لم يعلّق على الموقف الأميركي في مجلس الأمن، ودفاعه المستميت عن إسرائيل لإبقائها دولة فوق القانون.
كان من المفترض بالسلطة الفلسطينية أن تقف طويلاً أمام واقعة مجلس الأمن وتحسس الخطر الآتي من هذا المحفل الدولي، ولا سيما أن النقاشات والبيان الذي صدر يمثّلان رسالة غير مباشرة إلى السلطة الفلسطينة وبعض الدول العربية الماضية في دعم المفاوضات والمعوّلة على موقف أميركي مختلف في نهايتها.
واقعة مجلس الأمن تؤكّد أن الموقف الأميركي من إسرائيل لم ولن يتغير، بغض النظر عن الإدارة التي تقطن البيت الأبيض. هذا ثابت غير متحوّل من المفترض أنه كان معروفاً للجميع، حتى وإن حاول الرئيس الأميركي تلطيفه بخطابات الانفتاح المنمقة والمقدمة بأداء مسرحي عالي المستوى.
الأداء الأميركي في المنظمة الدولية يضع الكثير من علامات الاستفهام حول مصير القرار العربي باستئناف المفاوضات غير المباشرة، الذي وضع مجلس الأمن كخيار بديل في حال فشل المفاوضات غير المباشرة. والرئيس محمود عبّاس تحدث عن ضمانة أميركية بعدم استخدام حق النقض في حال لجوء العرب إلى مثل هذا الخيار.
الضمانة، إن كانت حقيقية، مرتبطة بالطرف المعرقل للتقدم في المفاوضات. وتحديد مثل هذا الطرف خاضع لتأويلات واستنسابية وتفسيرات سياسية غير مرتبطة بوقائع حسية، كما هي حال شهداء قافلة الحرية التركية والدولية.
لذا، من الممكن من الآن استبيان الموقف الأميركي في مرحلة ما بعد فشل المفاوضات: رفض لإدانة إسرائيل واستماتة في الدفاع عن الحليف غير المتبدل.
ما بين كلام عبّاس والرسالة غير المباشرة في مجلس الأمن، ستبقى سفينة المفاوضات سائرة بانتظار موعد «القرصنة» الإسرائيلية و«الحماية» الأميركية. موعد لن يطول انتظاره.