سعد الله مزرعاني * في نطاق ردود الفعل على الجريمة الإسرائيلية الجديدة ضدّ قافلة الحرية، أي ضدّ غزة بالدرجة الأولى، توجّهت سيّدة، برزت كلّ أشكال المعاناة القاسية والطويلة على ملامحها، لتطالب قادة حركتي «فتح» و«حماس» بالتصالح والتنسيق فالتوحّد، ضدّ العدوّ الإسرائيلي المحتل.
بدوره، أطلق السيّد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» مساء الثلاثاء الماضي في مؤتمره الصحافي من العاصمة اليمنية صنعاء، أطلق نداءً إلى «الإخوان في حركة فتح»، من أجل المباشرة في عملية المصالحة على أساس «الثوابت الوطنية». وقد اعتبر الرئيس الفلسطيني محمود عباس، من جهته، أنّ الردّ على الجريمة الإسرائيلية يكون عبر «المصالحة وكلّ ما عداها كلام»!
طبعًا، لم يكن من المناسب، بل من اللائق، أن يطالب خالد مشعل مثلاً، الآخرين، مصر خصوصًا، باتخاذ مواقف جديدة، وانعطافية كردّ على الجريمة النوعية الإسرائيلية ضدّ «قافلة الحرية»، بينما هو يتغافل عن نصيبه من ذلك.
سيظنّ البعض أنّ قائدي حركة «فتح» و«حماس» سيسارعان إلى اتخاذ ما هو ضروري من أجل بلورة قناة حوار بين حركتيهما في غزة ورام الله بهدف استكشاف إمكانية التقدّم في موضوع المصالحة الفلسطينية ــــ الفلسطينية في وهج ما يمليه الواجب حيال غزة وفلسطين جميعًا في هذه المرحلة الحرجة من النضال الفلسطيني. للأسف لن يكون الأمر على هذا النحو! هذا ما تعلّمنا إيّاه التجارب السابقة. ومع رغبة أكيدة بأن يكون تقديرنا خاطئًا هذه المرة، فالأرجح أنّ هذا النداء، لن يتجاوز وظيفته التكتيكية في تبادل تسجيل نقطة لحساب فريق على فريق. فيكون هذا النوع من الدعوات تكرارًا لتلك العبارات التي باتت ثقيلة الوقع على أسماعنا من مثل: «إنّ حركة (...)، أو إنّ حكومتنا، أو إنّ دولتنا تقف على مسافة واحدة من الجميع». تُقال هذه العبارة، فيما الواقع العملي الواضح كوضوح الشمس يفضح مردّدي مثل هذا الكلام السمج الذي يستخفّ بعقول الناس وبالحقيقة وبأصول التخاطب من الأساس!
في مناسبة أخرى، كان يمكن «التطنيش» على تكرار هذه الدعوة. اليوم لم يعد ذلك مقبولاً. فليس من الطبيعي أن يتضامن العالم مع قضية فلسطين وشعبها، فيما الوضع الفلسطيني مشرذم ومنقسم إلى حدود الانقطاع والقطيعة ومعها كلّ أشكال الصراع والاعتقال والإبعاد (!) والاتهامات والقمع...
ينعقد الخلاف بل تنظيم الخلاف، في حلقة من حلقاته، حول عدم توقيع حركة «حماس» على وثيقة التفاهم التي أعدّتها السلطة المصرية. «فتح» تطالب «حماس» بالتوقيع وإسقاط التحفّظات على غرار ما فعلت هي حين تجاوزت ملاحظاتها، وأقدمت على توقيع الورقة المصرية. و«حماس» ترهن التوقيع بتعديل يتناول مرجعية الإشراف على الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية، بحيث تؤول هذه المرجعية إلى هيئة مستقلة لا أن تكون تابعة لرئيس السلطة الفلسطينية الحالي محمود عباس.
طبعًا، يملك كلّ طرف سببًا للتمسّك بموقفه، ولاتهام الطرف الآخر بأنّه يعمل فعليًا ضدّ المصالحة، تكريسًا لوضعه الراهن وامتثالاً لإملاءات وضغوط خارجية، مصدرها إيران بالنسبة لحركة «حماس»، ومصر ودول محور «الاعتدال العربي» بالنسبة لحركة «فتح» ومن خلالها السلطة في رام الله ومنظمة التحرير الفلسطينية.
الصراع ليس بين «قوة تفاوض ولا تقاتل» (فتح) و«قوة تقاتل ولا تفاوض» (حماس)
يجادل فريق «فتح» و«السلطة»، بأنّه في ظلّ سلطة الرئيس محمود عباس أمكن إجراء الانتخابات التشريعية في دورتها الماضية. وقد اتّسمت هذه الانتخابات بالنزاهة الكاملة، وتمكّنت «حماس» من أن تحوز فيها الأكثرية. فما الذي يمنع اليوم من تكرار التجربة وفق ترتيبات متفق عليها ودون إضعاف المؤسسات الفلسطينية أو التشكيك بقدرتها وبنزاهتها؟ وتتمسّك حركة «حماس» بوضع المرجعية خارج رئاسة السلطة ضمانًا للحياد وللنزاهة في ظروف متحرّكة ومتوترة ووسط تنافس مرير لم يخلُ، كما هو معروف، من استخدام القتل والتصفيات والعنف وأساليب الإكراه والمنع والقمع.
كلّ ذلك الجدل يدور، في الواقع، حول تنظيم الخلاف بهدف إعادة توحيد المؤسسات المشتركة وتفعيلها. أما في المضمون، فتصبح الصورة أكثر تعقيدًا. وتتباعد المواقف إلى حدود التخوين والتفريط والارتهان...
وفي تعقيدات المضمون أنّ الطرفين، واقعيًا، مستقطبان في المحاور الإقليمية المتصارعة. هذا لا جدال فيه ولا ينفع معه نفي وادّعاء عفة أو استقلالية كاملة! ولئن كان التحالف أمرًا طبيعيًا (والمحوران الإقليميان متباينان حول موضوع الصراع في المنطقة والتحالفات الدولية والعلاقات العربية...)، إلا أنّ الالتحاق الكامل بالغير من جانب طرفي الخلاف الفلسطيني، يظلّ أمرًا مرفوضًا، لأنّه يعمّق الانقسام الفلسطيني ــــ الفلسطيني، ويضرب الحدّ الأدنى من الوحدة الفلسطينية التي يجب عدم التفريط بها مهما كلّف الأمر، وخصوصًا في مرحلة التحرّر الوطني والمواجهة مع المحتل.
من ناحية ثانية، فإنّ الصراع ليس ببساطة، بين «قوة تفاوض ولا تقاتل» (فتح) و«قوة تقاتل ولا تفاوض» (حماس). ففي حقيقة الأمر أنّ قوى في «فتح» تستمرّ في القتال وإنْ غير رسمي، و«حماس» تمارس التفاوض أو تسعى إليه، ولو غير رسمي أيضًا. وذلك فيما تصعّد حكومة نتنياهو ــــ ليبرمان من إجرامها وخططها العدوانية ضاربة كلّ أساس للتفاوض العلني والسري، وممعنة في تدمير وحصار كلّ ما من شأنه أن يمكّن الشعب الفلسطيني من أن تكون له دولة مستقلة عاجلاً أم آجلاً.
إنّ الشعب الفلسطيني يتعرّض لمحاولة دموية بربرية مستمرّة لتصفية كلّ ما أنجزه من عناصر القوة والمقاومة والإدارة والبنية الاقتصادية والسياسية والخدماتية... وهذا الاستهداف يشمل كلّ الفصائل الفلسطينية وكل المجالات الفلسطينية. أما التمييز بين «فتح» و«حماس»، فهو شكلي، ويهدف إلى تعزيز الانقسام وتسهيل الاستهداف. ويكون من واجب القوى الرئيسية الفلسطينية إدراك ذلك، من أجل صياغة حدّ أدنى من المواجهة الموحّدة التي لا تلغي بالتأكيد واقع الخلاف والاختلاف، بل تضعه في موقعه الطبيعي، أي خارج تهديد الوحدة الوطنية في شروطها الدنيا على الأقل.
على «حماس» و«فتح»، إذًا، اتخاذ مبادرات ذات مصداقية في جمع «الديموغرافيا» في غزة مع «الجغرافيا» في الضفة الغربية. هذا تبسيط، لكنّه مع ذلك ذو معنى، وخصوصًا أنّ الإمعان في التقاسم والانقسام، إنّما هو هدية ثمينة تقدّم إلى الصهاينة في مسعاهم التصفوي، من خلال تكريس واقع الانقسام بين صفوف الشعب الفلسطيني في كلّ مناطق الاحتلال والاغتصاب والشتات، وليس فقط بين قواه السياسية في الضفة والقطاع. ويؤدّي ذلك تلقائيًا («شاء من شاء وأبى من أبى») إلى أمور خطيرة ليس أقلّها إسقاط حق العودة وعدم استعادة القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة... فضلاً عن تشتيت الطاقات في صراع داخلي لا يرحم ولا ينتهي، إلا بالخيبة واليأس والتراجع.
بديهي أنّ من شروط المصالحة الفلسطينية ــــ الفلسطينية، إعادة رسم العلاقات، في إطار المصلحة الوطنية الفلسطينية وفي إطار الثوابت الفلسطينية في البرنامج والأساليب والعلاقات... وليس التخلّي عن الحدّ الأدنى من هذه المصلحة لحساب أولويات الأطراف الأقوى في المحاور الإقليمية القائمة (خلف بعضها الولايات المتحدة وإسرائيل!).
المطلوب إذًا، من «حماس» و«فتح» الانتقال من الكلام إلى الأفعال، قبل مطالبة الآخرين بذلك، وقبل أن تتراكم الخسائر إلى الدرجة التي يصبح فيها لوم العدو مفردة سمجة قياسًا على «ظلم ذوي القربى»!
* كاتب وسياسي لبناني