في الحلقة الأخيرة من سلسلة مقالاته في «الأخبار»، رأى أسعد أبو خليل أن يشنّ ما يشبه الهجوم عليّ. وقد تردّدت لوهلة قبل كتابة هذه الأسطر، إذ كنت قد قرّرت القيام بالأمر بعد ظهر الاثنين. وفي صباح اليوم ذاته، علمت كسائر الناس بالمجزرة النكراء الجديدة التي ارتكبها جيش الاعتداء الصهيوني. غير أن سببين أقنعاني بكتابة الردّ هذا بالرغم من شدّة غضبي، أوّلهما أن الاستنكار العالمي للمجزرة جاء عظيماً على الفور ليؤكد أن صفحة قد طويت منذ العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزّة قبل عام ونصف، والثاني هو أن الدولة الصهيونية بدأت منذ العدوان على غزّة تخسر معركة الرأي العام العالمي التي طالما كانت متفوّقة فيها علينا

جلبير الأشقر *
أخذت صورة الدولة الصهيونية تنحطّ على درجات منذ اجتياحها للبنان سنة 1982 ورعايتها لمجزرة صبرا وشاتيلا، ومن ثم قمعها للانتفاضة الأولى ثم الثانية في ذلك الجزء من أرض فلسطين الذي احتلّته عام 1967، وصولاً إلى العدوان الوحشي على لبنان عام 2006. والفضل الأكبر في ذاك الانحطاط لصورة إسرائيل عالمياً لا يعود البتّة إلى براعة الدعاية العربية، للأسف، بل يعود في الدرجة الأولى إلى غطرسة الحكومات الصهيونية نفسها، التي باتت تتصرّف كطفل مدلّل يظنّ أن الرأي العام الغربي سيغضّ النظر عن كل أفعاله مهما كانت شنيعة. والحال أن إسرائيل، كما شرحتُ طويلاً في كتابي الأخير «العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية ـــــ الإسرائيلية»، الصادر عن دار الساقي في بيروت، إنما تلجأ إلى تصعيد تذرّعها الخبيث بالإبادة النازية لليهود الأوروبيين، المسماة بالمحرقة، كلّما وجدت نفسها في مأزق سياسي. ولعلّ أسطع مثال على ذلك ردّ مناحم بيغن عام 1982 على رونالد ريغان الذي كان قد أبدى بعض القلق إزاء مصير المدنيين الذين حاصرهم الجيش الصهيوني في بيروت، بتشبيهه بيروت ببرلين في نهاية الحرب العالمية الثانية، وياسر عرفات بأدولف هتلر!
ويعلم الجميع كيف تستغلّ الدولة الصهيونية المحرقة النازية في دعايتها العالمية، سواء تعلّق الأمر بشرعنة اغتصابها لفلسطين وطردها لشعبها عام 1948، أو بتبرير حروبها العدوانية والفظاعات التي ارتكبها جيشها عبر السنين ولم ينفكّ يرتكبها. ولمّا كانت المحرقة الذريعة الرئيسية في جعبة الصهيونية الأيديولوجية، اقتضى على المثقفين العرب الحريصين على التصدّي للدعاية الصهيونية أن يجمعوا بين مهمتين: دحض المرويّة الصهيونية التي تصوّر العرب أتباعاً ثم أحفاداً للنازيين، وتسليح الدعاية الفلسطينية والعربية بأساليب فعّالة في التوجّه إلى الرأي العام الغربي وإقناعه بقضيتنا. وقد أسهم العديد من المثقفين الفلسطينيين والعرب في هذا المجهود، لعلّ أبرزهم إدوارد سعيد ومحمود درويش. غير أن المعركة كانت تفتقر إلى بحث مركّز في كل الجوانب الأساسية لحرب المرويات الدائرة بيننا وبين الصهيونية بشأن المحرقة، وهو ما حاولت القيام به في كتابي الأخير.

المعركة تفتقر إلى بحث مركّز لحرب المرويّات الدائرة بيننا وبين الصهيونية بشأن المحرقة
ومن هذا المنطلق نفسه، قررت كتابة هذا التعقيب بالرغم من المجزرة الأخيرة، بل بسبب المجزرة، إذ إن هذه المحطة الجديدة في تدهور صورة إسرائيل عالمياً ينبغي ألّا يعوّض عنها بعض الوطنيين الفلسطينيين والعرب كالمعتاد بمواقف تافهة تسخّرها الدعاية الصهيونية في تشويه صورة العرب، ومن هذه المواقف بالطبع «إنكار المحرقة». ولمّا كانت مقالة أبو خليل مكرّسة لهذا الموضوع، فهي فرصة جيّدة لتصويب الأمور، أشكره على توفيرها.
وقبل مناقشة مآخذه عليّ، انتهز فرصة هذا التعقيب لتوضيح المغزى من قبولي الردّ على أسئلة الصحافي الذي اتصل بي هاتفياً من برلين حيث يعمل مراسلاً لـ«يديعوت أحرونوت»، الصحيفة الإسرائيلية الأكثر رواجاً، وهي المقابلة التي علّق عليها أبو خليل. فهل كان عليّ أن أرفض تلك الفرصة لمخاطبة الرأي العام الإسرائيلي دفاعاً عن قضيتنا (وليس «للترويج» لكتابي، كما كتب أبو خليل افتراءً، وهو الذي لا يعلو عليه أحد في الترويج لنفسه)، وذلك بحجة رفض «التطبيع» كما جاء في أحد التعليقات؟ وهل «التطبيع» هو في استغلالنا لفرصة نادرة في الدفاع عن قضيتنا في صحيفة إسرائيلية، بينما تنشر صحفنا العربية وبكثافة ترجمات لمقالات صادرة في الصحف الإسرائيلية، وتستضيف على الدوام محطاتنا التلفزيونية، ولا سيما «الجزيرة»، المسؤولين والمثقفين الإسرائيليين الصهاينة ليشرحوا وجهة نظرهم أمام المشاهدين العرب؟ هل نستمر بمفهوم غبيّ للمقاطعة يضرّنا نحن ولا أحد سوانا، ونخلط بين استخدام المنابر الإعلامية التي يُتاح لنا استخدامها وبين مقاطعة المؤسسات الصهيونية والبضائع الإسرائيلية؟
فالمقاطعة المفيدة هي التي تضرّ بالعدوّ، لا بنا نحن! وألتزم من جهتي بالمقاطعة الأكاديمية في عملي في جامعة لندن، وأعلم أن ذلك يغيظ أنصار إسرائيل لأنه يضرّ بها، كما قاطعت قبل عام ونيّف نقاشاً علنياً بشأن نزاع الشرق الأوسط كنت مدعوّاً إليه في باريس، وقد فاجأني منظّموه بدعوة أحد مسؤولي سفارة إسرائيل. فحرّرت ووزّعت بياناً مشتركاً مع رفيقين آخرين من بين المدعوّين (أحدهما من أبرز قادة الحركة الطلابية الفلسطينية في فرنسا في الأعوام الأخيرة، والثاني ناشط فرنسي في دعم الشعب الفلسطيني)، مندّدين بدعوة المسؤول الإسرائيلي ومؤكدين أنه لا بدّ من التعامل مع ممثّلي دولة مجرمة بوصفهم مجرمين. فقد انعقدت الندوة من دوننا، لكن وسط ضجيج تظاهرة مضادة للمسؤول الإسرائيلي نُظّم أمام قاعة الندوة نتيجة بياننا. أما لو رفضتُ أن أجيب عن أسئلة مراسل «يديعوت أحرونوت»، فما كان ذلك ليضرّ بالدولة الصهيونية على الإطلاق، بل لمثّل تضييعاً غبيّاً لفرصة نادرة جداً. وقد هنّأني على تلك المقابلة العديد من الأصدقاء الفلسطينيين، وأيضاً أصدقاء إسرائيليون معادون للصهيونية، ونشرت ترجمة عربية عنها صحيفتا «الأخبار» (12 أيار) و«القدس العربي» (13 أيار). وأحيل القراء على نص المقابلة ليروا بأنفسهم كيف تصدّيت لأسئلة الصحافي، وهو يقول منذ البداية إنني ركّزت على «ما بنا نحن (أي الإسرائيليين) من عيوب».
ويبدو أن أسعد أبو خليل كان في حالة من التعب وانخفاض الصفاء الذهني عندما قرأ المقابلة، إذ إنه لم يفهمها (إلى حدّ أنه لم ينتبه إلى طريقة كتابتي لاسمي الأول). فيسأل في تعليقه «ماذا يريد جيلبرت الأشقر أن يقول لهم (أي الفلسطينيين)؟ أن عليهم تجميد أو تعليق النضال كي تتعرّض ظهورهم للجلد بالسياط لأنه مرّ عليهم قبل عقود قائد غبي وغير كفوء باسم الحاج أمين الحسيني؟» وقد فاته في هذا السؤال الذي لا يستند إلا إلى خياله ولا علاقة له بتاتاً بنص الحوار، أن المقابلة موجّهة إلى الإسرائيليين لا إلى الفلسطينيين (أتوجّه إلى الفلسطينيين باللغة العربية وفي المنابر الملائمة، وليس في ردّي على أسئلة صحيفة إسرائيلية!). وأما الذي قلتُه للإسرائيليين، فواضح لمن يحسن القراءة بحسن نيّة.
قلت لهم: «لا أشعر بأدنى تعاطف مع ما قام به مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، أثناء الحرب العالمية الثانية. كذلك أرى أن إنكار المحرقة في العالم العربي هو خاطئ ومضلّل ومسيء إلى القضية العربية والفلسطينية. لكن في الجانب الإسرائيلي، كيف يمكنكم انتقاد إنكار المحرقة في العالم العربي عندما تنكر إسرائيل النكبة الفلسطينية؟ أنا لا أشبّه بين طرد الفلسطينيين سنة 1948 والمحرقة. فالمحرقة كانت إبادة جماعية، وبالتالي مأساة أعظم بكثير من آلام الفلسطينيين منذ 1948. غير أن العرب والفلسطينيين لم يقترفوا المحرقة، بينما إسرائيل هي المسؤولة عن النكبة. وقد أثبت ذلك مؤرّخون إسرائيليون. ومع ذلك، تواصل إسرائيل إنكار مسؤوليتها التاريخية في تلك المأساة.»
كما قلت لهم: «لماذا إذاً كل هذا الاهتمام بالمفتي في إسرائيل؟ لم يكن لدى إسرائيل والحركة الصهيونية من إجابة على قول الفلسطينيين إن المحرقة كانت أمراً فظيعاً لكنهم ليسوا مسؤولين عنها، وإنه بالتالي لم يكن هناك من سبب كي يدفعوا هم ثمن أعمال الأوروبيين. ثم أخذ الصهاينة يقولون إن المفتي هو برهان ضلوع الفلسطينيين في المحرقة. وخلقوا مرويّة تُظهر العرب أعواناً للنازيين، بحيث يزعمون أن حرب 1948 كانت آخر معارك الحرب العالمية الثانية ضد النازيين. غير أن هذه المرويّة لا تصمد أمام الوقائع التاريخية. إنها دعاية مغرضة».
وأضفت: «إن إنكار المحرقة في العالم العربي اليوم ينمّ عن الجهل بصورة رئيسية. بيد أنه لا بد من التمييز بينه وبين إنكار المحرقة في الغرب، الذي هو ظاهرة مَرَضية. في الغرب، إن منكري المحرقة مرضى نفسيون، ويكنّون عداءً كاملاً للسامية. أما في العالم العربي، فإن الإنكار الذي يوجد في بعض تيارات الرأي العام، التي لا تزال أقلية، إنما ينمّ عن الغيظ والكبت أمام تصاعد العنف الإسرائيلي، مصحوباً بتزايد التذرّع بالمحرقة».
وقلت لهم أيضاً: «إنّ النزعة إلى رؤية النازيين في كل مكان تؤدي إلى تتفيه النازيين. كان هتلر وجهاً تاريخياً من السوء إلى حدّ أن تشبيه أحمدي نجاد به ضربٌ من العبث. يمكنك أن تظنّ ما تشاء في الرئيس الإيراني، لكنّ بلاده ليس فيها معسكرات اعتقال حيث تجري عملية إبادة. إن المجتمع الإيراني مجتمع يشهد صراعاً سياسياً، وليس مجتمعاً شمولياً على طريقة ألمانيا النازية. والحال أن التشبيه بالنازيين وبهتلر شائع جداً داخل إسرائيل أيضاً. وقد شبّه بن غوريون بيغن بهتلر، ووزّع اليمين المتطرّف في إسرائيل صوَراً لرابين في زيّ وحدات س س النازية. فالإسرائيليون يرون هتلر في كل مكان: ناصر، صدّام حسين، عرفات، نصر الله. فلماذا تعجبون إذا فعل العرب ذلك هم أيضاً؟ طبعاً، كل هذا غلوّ غير مجدٍ».
في الحقيقة، فات أسعد أبو خليل ما ورد في مقابلتي إلى حدّ أنه ردّد العديد من حججها في مقالته، دون أن يستدرك تشابه ما كتبه مع ما قلته. هذا فضلاً عن أن كل من يقرأ كتابي سيرى أن معظم الحجج التي يصوّرها أسعد أبو خليل كأنها خاصة به، موجودة في كتابي ومسندة فيه إلى محاججة مستفيضة وتوثيق. غير أن أبو خليل لم يكلّف نفسه عناء قراءة الكتاب، وهو الذي يفتخر بكثرة قراءاته وسرعتها، ولم يمنح نفسه بضعة أيام إضافية كي تتسنّى له فرصة قراءته قبل كتابة هجوم على مؤلفه. ولو قرأ الكتاب لما كتب ما كتب، إذ إن ما قاله عن «المفتي» محمد أمين الحسيني إنما ينمّ عن جهل واضح بسيرة الحسيني الحقيقية، وحتى بمذكّراته. فأين الصرامة الفكرية من هذا السلوك، يا ترى، ولا سيما من قِبَل أستاذ جامعي وكاتب يدّعي معرفة كل شيء، بل احتكار المعرفة والحكم على الناس كافة، يميناً ويساراً، من أعلى قممها؟
ولن أغوص هنا في وصف سيرة المفتي. فمن اهتمّ بالأمر يستطيع قراءة كتابي. لكنني أكتفي بمسألة واحدة على سبيل المثال، لا الحصر. كتب أبو خليل: «هل نستطيع أن نتهم بناءً على القرائن والوثائق، المفتي الحسيني بمعاداة اليهود، أو باعتناق عقيدة معادية لليهود؟ الجواب سلبي». فيريد أبو خليل هنا أن يوحي إلينا أنه مطّلع على «القرائن والوثائق»، لكن الحقيقة أنه جاهل بها جهلاً مطبقاً. وإليكم عيّنة بسيطة من خطابات الحسيني التي بثّها من إذاعة برلين، مقتبسة من الخطبة التي أدلى بها في 2 تشرين الثاني 1943 لمناسبة ذكرى تصريح بلفور، وقتَ كان يعلم بقيام النازيين بإبادة اليهود، وقد روى في مذكّراته أن صديقه هاينرش هملر أخبره بما سمّاه النازيون «الحل النهائي» في تموز 1943، وأبلغه أن ألمانيا كانت قد أبادت ثلاثة ملايين من اليهود حتى ذلك الحين:
«الأنانية المتضخّمة والمتأصلة في طبع اليهود، واعتقادهم الدنيء أنهم شعب الله المختار، وزعمهم أن كل ما خُلق خُلق لأجلهم، وأن البشر الآخرين بهائم يمكنهم تسخيرها لمآربهم، إلى جانب المعاملة التي يعاملون بها الآخرين على أساس هذا الاعتقاد ـــــ كل هذا جَرَّ عليهم المصيبة تلو المصيبة. وسمات طبعهم هذه تجعلهم غير قادرين على صون العهد مع أي أحد أو على الاختلاط بأي أمة أخرى؛ فهم يحيَون، بالأحرى، طفيليين بين الشعوب، يمتصّون دمها ويسرقون أملاكها ويفسدون أخلاقها، ومع ذلك يطالبون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها السكان الأصليون... وواجب المسلمين عموماً والعرب خصوصاً هو أن يحددوا لأنفسهم هدفاً يجب ألا يحيدوا عنه، ويجب أن يسعوا إليه بكل ما أوتوا من قوة. هذا الهدف هو إخراج جميع اليهود من البلدان العربية والمسلمة. فهذا هو السبيل الوحيد إلى الخلاص، وهو ما فعله النبي قبل ثلاثة عشر قرناً... وألمانيا تناضل أيضاً ضد العدو المشترك الذي اضطهد العرب والمسلمين في بلدانهم المختلفة. فقد رأت اليهود على ما هم عليه رؤية جد واضحة، وقررت إيجاد حل نهائي للخطر اليهودي سوف يمحو البلية التي يمثلها اليهود في العالم».
ويسأل أبو خليل عن الغرض من تنديدي بأمين الحسيني، «والحاج أمين مات، فما هي ضرورة محاكمته اليوم، وفي صحيفة إسرائيليّة؟». والجواب بسيط، فإذا كنّا مهتمّين بإقناع بعض الرأي العام الإسرائيلي أو بالتأثير عليه في اتجاه سلخِه عن المنطق الصهيوني المتشدّد (وهذا ينطبق على دعاة الدولة العربية ـــــ اليهودية الواحدة، ومنهم أبو خليل، أكثر مما ينطبق على دعاة حلّ الدولتين)، فضلاً عن إقناع يهود العالم غير الصهاينة وسائر الرأي العام الغربي، لا بدّ لنا من أن ندحض الحجة الصهيونية الرئيسية التي تقول إن الحسيني مثّل جميع الفلسطينيين والعرب، بل والمسلمين. وكيف لنا بدحض تلك الحجة الكاذبة سوى بتأكيد تنديدنا الصارم بتعاون الحسيني مع النازيين (الذي يجهل أبو خليل جوانبه المتعددة) كما ندّد به العديد من الوطنيين الفلسطينيين والعرب عبر السنين، مع ردّنا على الصهيونية بأنها مهووسة بالمفتي من باب الدعاية المغرضة ليس إلّا، كما فعلت في المقابلة.
أما قول أبو خليل إن «ذمّ المفتي في جريدة إسرائيليّة، كما فعل الأشقر، هو بمثابة ذمّ جمال عبد الناصر في جريدة سعوديّة، أو هو مثل ذمّ جورج حبش في الـ«نيويورك تايمز»»، فيحتاج إلى تعليق أخير. إن تلك الحجة تضع أمين الحسيني في خانة جمال عبد الناصر وجورج حبش. فأنا أبعد ما أكون عن «ذمّ» عبد الناصر أو جورج حبش في أي منبر كان، ولو في جريدة «الأخبار» أو مجلة «الآداب». وإذا كان لديّ انتقادات لأيّ منهما، فهي تقترن باحترامي لما مثّلاه من قِيَم تقدّمية وأهداف نبيلة أشاركهما فيها. أما أمين الحسيني، فهو في خانة السعوديين وسائر الرجعيين، عيّنه في منصب المفتي المفوّض السامي البريطاني الصهيوني هربرت صمويل بنقض الأصول التي كانت متّبعة في تعيين المفتي حتى ذلك الحين، ثم سعى جهده لمسايرة البريطانيين بناءً على نصائح صديقه الملك السعودي عبد العزيز، مجهضاً الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، ثم اختلف مع أسياده

هل نستمر بالخلط بين استخدام المنابر الإعلامية التي يُتاح لنا استخدامها ومقاطعة المؤسسات الصهيونية والبضائع الإسرائيلية؟

السابقين وهرب من فلسطين سنة 1937 إلى أن أمضى سنوات الحرب بين 1941 و1945 متنقّلاً بين ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، مساهماً في دعايتهما تجاه العرب والمسلمين، ومحاولاً (بفشل عظيم) تجنيد العرب إلى جانبهما، ومساهماً (بنجاح أكبر) في تأسيس كتيبتين لوحدات النخبة النازية س. س. من أبناء البوسنة المسلمين. ثم عاد إلى المنطقة العربية إثر انتهاء الحرب، فرأى نفسه منبوذاً أكثر فأكثر بعد النكبة، وقد ربط الناس بينه وبين الهزيمة، فحُيّد عن منظمة التحرير الفلسطينية عند إنشائها برعاية مصر الناصرية، وحُيّد مرة ثانية عندما استولت عليها منظمات الكفاح المسلّح، فلم يرَ من سبيل إلى أداء دورٍ ما سوى التحالف مع الملك حسين عندما أخذت المقاومة الفلسطينية تتطوّر في المملكة الأردنية، فشارك ممثّله في حكومتها وبقي فيها بالرغم من مجازر أيلول الأسود سنة 1970.
فمثل هذا الرجل الغارق في الرجعية، ليس لديّ أي إحراج في «ذمّه»، سواء كان الأمر في جريدة إسرائيلية أو في أي منبر آخر، مثلما ليس لديّ أي إحراج في «ذمّ» الحكم السعودي في أي منبر كان، ومثلما لا يتورّع أبو خليل عن ذمّ السعوديين في منابر الولايات المتحدة، فضلاً عن ذمّه المستمرّ للعديد من القوى والقيادات الوطنية الفلسطينية والعربية في مدوّنته باللغة الإنكليزية على الإنترنت، التي تُقرأ في أميركا، وكذلك في إسرائيل. فلنكفّ عن المزايدات، فقضيتنا تستحق أحسن من ذلك، والجهل والعنجهية ما زالا يُضعفانها، فلا بدّ من نبذهما كي نُحكم الدفاع عنها في المعركة التي نخوض أمام الرأي العام العالمي ضد أعدائنا المشتركين.
* أستاذ جامعي مقيم في بريطانيا