وائل عبد الفتاحسينتهي الحصار، لكن من دون احتفال ولا مشاعر انتصار. يحدث هذا بعدما أصبحت غزة أكبر من فلسطين، وحماس موضوعاً لا طرفاً في القضية.
العالم غاضب من إسرائيل، وأميركا وجدت الحل عبر مصر التي تمسك الآن بمفتاح كسر الحصار. مفتاح صعب، لكنه يضمن بقاء مصر في السباق بين القوى الإقليمية.
مبارك تصرف بالطريقة التي تجعله مشرفاً على تحويل معبر رفح إلى جسر مساعدات، يخفف من الغضب، لكنه لا يصنع حياة، لا يجعل من غزة منصة أو قاعدة انطلاق مستقرة.
كسر للحصار يشبه الكسر، كما أن حكومة حماس تشبه الحكومة، والسلطة تشبه السلطة، لكن لا شيء يشبه ذوبان فلسطين في جزر معزولة، بعيدة عن حل شامل، أو تصور يعيد تشغيل القضية.
غزة أصبحت قضية، وحصارها محور الصراع، ومسار السجالات، وفلسطين أصبحت ملعباً لا قضية، لأن العرب لا يريدون الحل، أو تحقيق العدل بقدر ما ينتظرون أبطالاً يقودون حروباً أبدية. الطاقات العربية الممكنة استهلكت في إعداد أبطال أكثر مما استهلكت في بناء دول قوية لا تستهين بها إسرائيل أو أي دولة في العالم.
تأجل كل شيء في العالم العربي من أجل الحرب مع إسرائيل، وتضخمت إسرائيل إلى حد أصبحت معه وحشاً مرعباً، تنفلت قوته ويمارس بلطجته يومياً، وفي مواجهته تظاهرات تنتظر البطل، وتنادي بإعادة موقعة خيبر، وتتوعد اليهود بالموت.
لماذا لم يفكر العرب في صناعة دول محترمة بدلاً من انتظار أبطال يتحولون إلى كوارث متحركة؟
البحث عن أبطال هو قدر الشعوب العاجزة والبائسة. والشعوب العربية عاجزة وبائسة. وصورتها ليست أكثر من فلول ضحايا حرب كبرى.
حرب لم تنشب فقط على الجبهات العسكرية، لكنها على مستويات نفسية ووجودية حولت العرب إلى كائنات خرافية خارج التاريخ. ومن هتفوا لصدام حسين يهتفون اليوم لأردوغان.
أردوغان ليس صدام، لكن العرب يريدون تحويله إلى صدام جديد، يشحنون صورته على أنه بطل مخلص، ومنقذ للعروبة، بدلاً من الوعي على أنه سياسي يبحث لبلاده عن موقع في منصة قيادة المنطقة.
المأساة ليست في بحث تركيا عن دور جديد يستعيد أمجاد إمبراطوريتها العثمانية، بل في خطابات تناديه بفارس العرب، وهتافات تضعه في صورة صلاح الدين الأيوبي، وهي صورة أقرب إلى لاعب ماهر في الصراع الإقليمي، وتركيا ستتصرف حسب توازنات القوى، وهذا سر تمهلها في رد الفعل، على عكس مصر التي سارعت إلى فتح المعابر، من دون أن تقف لحظة ما أمام فكرة أن القرار يجعل مما كانت تروّج له عن مخاوف على أمنها القومي يتبخر من دون إبداء أسباب مقنعة.
مصر كانت أخفّ من تركيا في رد الفعل، لأنها تعرف موقعها حيث اختارت مع نظام مبارك موقع الإسعاف أو الإنقاذ، أو حامل المفاتيح. وهذه كلها أدوار سهلة الحركة، وخصوصاً أن فتح المعابر يعني كسر الحصار بإرادة وتحكم مصريين، بمعنى أنه لن يربك التوازنات الفلسطينية ولن يسمح لأطراف متصارعة على السلطة بين غزة والضفة. سيكون المفتاح بيد الأجهزة المصرية.
هل تكون الجريمة الإسرائيلية بحق أسطول الحرية فرصة لإعادة ترتيب المواقف، والتخلص من لعنة انتظار البطل، والتفكير في حل عادل للقضية، لا جولات فروسية، ورايات المنقذين، ذلك التصور القديم الذي يرتبط بعصور سحيقة، ولم يعد له مجال في ظل ظروف عالم مختلف؟
أبطال القضية أصبحوا أكبر من القضية. وفلسطين اختفت تحت رايات الفصائل والأحزاب وهتافات تستدعي الأبطال أكثر مما تسعى إلى استعادة فلسطين. هذه الأوضاع العبثية هي الحصار الكبير الذي ينتظر حرباً داخلية لتحطيمه تحطيماً.
العبث سيد موقف تزداد فيه الحماسة، كلما اتسعت دائرة العجز واليأس، ترتفع حناجر العرب صراخاً وألماً، بينما تتصارع القوى الجديدة في الإقليم على احتلال ملاعب السياسة، وتحشد جمهورها المتخيل في شوارع العرب انتظاراً ليوم الانتصار والتسيد، ولا عزاء للقضية ولا لأحد.
العزاء الوحيد في الأبواب الجديدة المفتوحة أمام القضية لتصبح أكبر من صراع بين مسلمين ويهود، أو حرب مقدسة بين أتباع ديانتين. فلسطين أمامها فرصة لتعود قضية عالم يرفض دولة الاحتلال الاستيطاني التوسعي، الأخيرة.