من وحي يواكيم مبارك وحسن صعب


أمين الياس *
عندما بادرنا للردّ على المقال القيّم للأستاذ أنطوان فليفل حول «علمانية الأب يواكيم مبارك» وما تضمّنه من دعوة نبيلة إلى «علمانية مشرقية»، ومن ثمّ على مقال الأستاذ ألبير داغر حول «عروبة الموارنة» رغبة منّا في توضيح ما تضمّنه هذا المقال من بعض المقاربات لأصول الموارنة، لم نكن نتوقّع أن يتحوّل هذا «الأخذ والردّ» إلى شكل من أشكال الحوار غير المباشر، والذي تطرّق إلى مواضيع شديدة الأهمية كالعلمانية وإشكالية تاريخ الموارنة ولبنان والعروبة والإسلام. ولكم كانت غبطتنا عارمة حين فاجأنا الدكتور جورج قرم، بنشره أحد نصوص الأب العلامة يواكيم مبارك. فاللبنانيون بأمسّ الحاجة إلى الاطلاع على تراثهم الفكري الذي خلّفه لنا مفكّرونا قبل اندلاع «الحروب في لبنان» عام 1975.
لم نجد أفضل من نشر بعض المقاطع من محاضرة للدكتور حسن صعب، مؤسس «الجمعية اللبنانية للعلوم السياسية، وندوة الدراسات الإنمائية»، رداً على تحية الدكتور قرم، وجواباً إسلامياً إيجابياً على المبادرات المتواصلة التي لم ييأس الأب يواكيم مبارك من طرحها على الإسلام منذ ستينيات القرن الماضي. وخاصة أن الأب مبارك والدكتور صعب كانا قد التقيا على منبر «الندوة اللبنانية» من ضمن سلسلة حوارية نظمها مؤسس هذه الندوة الأديب ميشال أسمر في عام 1965 بعنوان «المسيحية والإسلام في لبنان».
يتطرّق الدكتور صعب في هذه المحاضرة، وهو الحائز دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة جورج تاون الأميركية، إلى مسائل جوهرية تتعلّق بضرورة الاجتهاد الدائم في الإسلام، كما بعلاقة الإسلام بالدولة، بالإضافة إلى قضايا مهمة أخرى كالحرية، والمساواة ما بين المسلم وغير المسلم، وما بين الرجل والمرأة، وبناء الدولة دون إعلان الإسلام ديناً لها. وإليكم بعض المقاطع التي اخترناها لما تتضمنه من أهمية كبيرة، ونظرة إسلامية جديدة في مقاربة هذه القضايا:

الإسلام ليس دين الدولة

«[...] نحن نبني مدينتنا الإنسانية مقتربين فيها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً من مثلنا الأعلى: مدينة الله. نحن نسترشد في ما نبني حكمة أسلافنا، [...] ومثلهم الأعلى ومثلنا واحد، ولكن تراكم الاختبارات الإنسانية، وانفتاحها على هذه الاختبارات الإنسانية يجعل قدرتنا على الاقتراب من هذا المثل الأعلى أوفى من قدرتهم. ونبني بناءً روحياً ديموقراطياً، لا بناءً غيبياً تيوقراطياً ولا أوتوقراطياً ولا سكتوقراطياً. نبني بدون أن تكون بنا حاجة لأن نميّز بين المسلم وغير المسلم داخل البناء. فالله لا يفرّق بين أحد من مخلوقاته. والإسلام لا يفرّق بين أحد من رسله. ودار الإسلام الحديثة لا تميّز بين مواطن وآخر باعتقاده الديني، بل بعمله الفاضل. ونبني ولا نفرّق بين رجل وامرأة.
ونبني ولسنا بحاجة إلى أن نعلن الإسلام دين الدولة. فالإسلام دين الله ودين الإنسان وليس دين الدولة. والدولة ليست من صنع الغيب ولكنها من صنع الإنسان. وكلمة دولة غير واردة في القرآن من أوله لآخره. ونبني لنحقق أمر الله. وأمر الله محبة ورحمة وإحسان وعدل وأخوة وحرية. وأمر الدولة إرادة وإكراه وعقل وتنظيم ومصلحة وتغيير. أمر الله جوهري أزلي، والدولة عارض دنيوي [...]

الإسلام ديموقراطية اجتهادية مطلقة

نبني مستهدفين المقاصد الإلهية لسعادة الإنسان وخيره، التي استخرجها علماء الأصول من كتاب الله كمقاصد للشرع، أي بناء قانوني أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي يبنيه الإنسان. [...] لنا أن نجتهد فيها وفي غيرها مثل اجتهادهم. فالإسلام ديموقراطية اجتهادية مطلقة، وكتابه مفتوح لكلّ مؤمن أوتِيَ المعرفة اللازمة للاجتهاد منه. وليس فيه نصّ واحد يمكن أن يقف عائقاً دون تحرّرنا أو حائلاً دون تقدّمنا. إن الاجتهاد بالرأي حول القرآن بدأ منذ عهد الرسول. [...] وليس لأحد أن يصرفنا عنه. وليس لأحد أن يحملنا على التخلي عن عقلنا في فقه القرآن فقهاً جديداً على ضوء ظروفنا المستجدّة.
فالأحكام تتغيّر بتغيّر الأزمان. وإذا بدت لنا ضرورة وقف العمل بأي نصّ من نصوصه، فقد خوّلنا الله هذا الحق. لأنه أراده ينبوعاً لحركتنا لا مصدراً لجمودنا. أراده سبباً لفلاحنا لا علّة لهلاكنا. [...] الحرية مبدأ الوجود الإنساني والحرية هي مبدأ الوجود الإنساني، وقاعدة التشريع البنائي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا مبدأ أول بين المبادئ الأصولية التي وضعها العلماء. [...] إن الذين حوّلوا الإسلام من رسالة حريات مقدّسة إلى تشريع حدود متعسفة هم الذين أرادوا استعباد الإنسان باسم الله، والله منهم براء.

الهوة ما بين الإسلام المثالي والواقع

تبدو هذه الصورة المشرقة لحقيقة الإسلام وحقيقة نظرته لقضايا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، متباينة كلّ التباين مع الواقع الإسلامي. الحقيقة الإسلامية رحمة وحرية وعدالة، والواقع الإسلامي تعسّف وعبودية وجور. الحقيقة الإسلامية تحرّر وتحضّر وتقدّم، والواقع الإسلامي تشيّؤ وتفتّت وتخلّف. نظام المعقولات الإسلامية كما نصوّرها نظام مثالي، ونظام الحياة الإسلامية كما هو الآن نظام تهالكي.
الهوّة سحيقة بين المثال والواقع [...]». (حسن صعب، «الإسلام وقضايا العصر الاقتصادية والاجتماعي»، محاضرات الندوة، (1965) 8ــــ11، منشورات الندوة اللبنانية، بيروت).
إن الخلاصة الأهمّ التي يمكن استخلاصها من أعمال الأب مبارك والدكتور صعب، لهي ذات دلالة شديدة الأهمية. فالأول كرّس حياته للانفتاح على الإسلام، وإيجاد أرض مشتركة ما بين «رسالة ابن قريش ودعوة وليد المزود»، مقتنعاً بأن الإسلام بات جاهزاً للخطو باتجاه المجتمع المتعدد وبالتمييز ما بين الزمنيات والروحانيات. أما الثاني فقد كان جهده منصباً أيضاً على التقدّم بالإسلام باتجاه المجتمع التعددي القائم على المساواة الكاملة بين كلّ المواطنين، مسلمين كانوا أم غير مسلمين، وبجعل الإسلام ديناً للإنسان فقط وليس ديناً للدولة. فمقولة أن «الإسلام دين ودولة، وعقيدة ونظام» بالنسبة إلى صعب هي مقولة لا أساس لها في القرآن، ذلك أن لفظة دولة لا ترد فيه من أوله إلى آخره. وبالتالي فإن الدولة هي عمل بشري، دنيوي، عارض، يقوم على الديموقراطية والحرية والمساواة والأخوة والعدالة.
إن الاستجابة الأفضل لدعوة الأب مبارك وجواب الدكتور صعب، لا تكون إلا حين يقرّر اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، التخلّي عن بعض خصوصياتهم الفئوية والطائفية لمصلحة بناء «الأمة اللبنانية» والدولة اللبنانية، القائمة على التعدد الديني واللغوي والحضاري. فما دام اللبنانيون لا يزالون طوائف فإنهم لن يستطيعوا أبداً بناء دولتهم المنشودة. أما السبيل الأفضل إلى ذلك فهو تبنّي «العلمانية السلبية» حيث تكون الدولة منفصلة تماماً عن الأديان، وبالتالي على مسافة واحدة من جميع الطوائف اللبنانية.
إن هذه «العلمانية السلبية» في بلد أُنعم (بضمّ الهمزة) عليه بصيغة مجتمعية تعدّدية، هي الضامن الوحيد لهذه التعددية. وفي كلّ الأحوال، إن هذه العلمانية هي الخدمة الأفضل التي يمكن تقديمها للأديان في لبنان. فالعلمانية، بفصلها الأديان عن الدولة، ستحرّر هذه الأخيرة من المطلقات الدينية، وتحرّر الأديان من أوحال السياسة. وبالتالي فإنها ستعيد الأديان إلى تساميها وإلى حقيقة دورها كخادمة للإنسان، أو على حدّ قول المطران جورج خضر «غاسلة أرجل» على مثال المسيح.
وهنا علينا إعادة الاعتبار إلى «الأمة اللبنانية»، ذلك أن «الأمة» La nation، عند الفيلسوف الفرنسي، وأهم المتخصصين بفكر «هيغل» Bernard Bourgeois، هي العنصر الإيجابي الأهم الذي يمكن استخراجه من «العلمانية السلبية». كما يجب علينا تربية النشء الجديد «تربية قومية» Education nationale لبنانية، مرتكزة على شرعة حقوق الإنسان وقيم المواطنة وحرية الضمير والتعبير والاجتماع والكتابة، والمساواة الكاملة ما بين كل المواطنين، وما بين الرجل والمرأة، وحيث تسود القوانين المدنية الوضعية المنفصلة تماماً عن القوانين الدينية المطلقة.

* طالب دكتوراه تاريخ في جامعة «لومان» الفرنسية