فيما لم تكن تظاهرة 9 أيلول قد شارفت على الانتهاء، بدأ نقاش حامٍ، على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي مقالات صحف اليوم التالي، بينما كانت لا تزال قيد الإنشاء. النقاش، إذا صحّ تلخيصه، انطلق بفكرة أن المنظمّين أخطأوا في تظاهرة هذا اليوم بقيامهم بالخطوتين التاليتين: أولاً، أنهم أقاموا منصّة مركزية مع نظامٍ صوتي مركزي وعالٍ، يبدو وكأنه من بقايا الآلات الصوتية المُستخدمة في التظاهرة العونية، التي حصلت في 4 أيلول. وثانياً، أنهم منعوا المتظاهرين من مواجهة رجال الأمن، المنتشرين في نقاط عدّة من المنطقة، عبر تكوين مجموعات من الناشطين تقف كالحرس بين الفريقين.
ما تقوله منطلقات هذا النقاش، وهو ما لاحظه الكثيرون في الإعلام، من أنّ الحراك الجاري ليس «ملكاً» لأيّ فريق من المنظّمين، بقدر ما يعتمد نجاح الحراك على تعاون جميع هؤلاء في ما بينهم. إذ يبدو وكأن فئات من الجمهور لم يعجبها «شَبَه السيطرة» على الحراك، البادي في خطوات المُنظمين، المذكورة أعلاه، لدرجة فرضت على مجموعة «طلعت ريحتكم» نشر توضيح في هذا الخصوص، على صفحتها على «فايسبوك». كذلك لدينا إثبات إضافي أن النقاش الجاري في الإعلام، حول تفضيل مجموعة على أخرى، بحسب عناوينها والشخصيات المنتسبة إليها، هو نقاش خارج عن منطق الحراك التعبويّ، في المرحلة الحالية (وهذا لا يعني أنّ هذا التأثير لن يتغيّر مستواه في مرحاة مقبلة)، فيما يبدو، حتى الآن، أنّ النقد الوحيد الفاعل، في تصويب تصرفات المنظّمين، هو النقد الآتي من جمهور الحراك تحديداً، وبالعلاقة مع ديناميكية داخلية خاصة بالحراك، مع منطقه الخاص. هو ما حصل سابقاً في استخدام مصطلح «المندسين»، وفي تصحيح المجموعة «الغبية» المسمّاة «عالشارع» لأخطائها على «فايسبوك» على دفعتين، وما يحصل الآن في النقاش الجاري حول شكل التحركات. لا أحد يأبه لمن يعود الفضل في تنظيم تحركٍ ما، إذا لم يكن هذا التحرك يحصل بالانسجام مع المجموعات الأخرى، أي مع «وحدة الحراك العام»، ومع ديناميكيته الداخلية، ومنظومة الأحاسيس التي تؤمنها هذه الديناميكية للناس. وقد تلمّس توضيح «طلعت ريحتكم» طغيان هذا الواقع، وبرّر الخطوات التنظيمية المُنتقدة بمحاولة المحافظة على وحدة الجميع التنظيمية، وإبرازها. لم أتحدث في مقال سابق عن منطق خاص بالحراك، عن ديناميكيات داخلية تحرّكه، من دون سببٍ وجيهٍ، وبسبب اقتناعي بوجود نتائج عمليّة مباشرة لهذا المنطق الخاص. وقد قارنته بـ»مرحلة أولى» مشتركة عند «ثورات» كبيرة حصلت في الماضي، تميّزت بتحقيق شللٍ تام بجهاز السلطة القائمة، ومهّدت الطريق لانقلاب في الحكم، والإدارة، والسياسة.

الطبقة السياسية
أصبحت أكثر حذراً في تعاطيها مع الحراك
أولاً، كلّ مؤرّخ للثورات يعرف أن هذه لا تنطلق دائماً بتحركات، أو أحداث «عظيمة» الشأن والقياس. هناك فكرة مُنتشرة، عند بعض الطبقات الوسطى، والوسطى الدنيا، المُثقفة تلفزيونياً، تقول بأن الأحداث الكبيرة والثورات لا تحصل إلا إثر إعلان تعبئة جماهيرية عامة من قبل قيادة «كاريزماتية»، أو إثر استفاقة مُفاجئة لنزعة للعنف الثوري، كامنة عند الطبقات الأفقر في المجتمع. مع أن السوابق التاريخية تذخر بالمنطق الاجتماعي المنافي لهذه المناحي. والثورة الروسية على سبيل المثال، بدأت ديناميكيتها الانقلابية على النظام القيصري إثر تظاهرات عمالية نسائية في مناسبة «يوم المرأة»، ونترك للقارئ تقدير ماذا كانت الأهمية الرمزية لهذه المناسبة خارج بيتروغراد، في المجتمع الريفي الروسي. لا بل إن الانقلاب على الحكم القيصري حصل في الوسط الطبقي الأقل تسلّحاً في ذلك الوقت. وكان أكثر من مليون فلّاح قد تسلّحوا أثناء خدمتهم العسكرية، في الحرب العالمية الأولى، وقد عاد قسم كبير منهم إلى الرّيف هارباً من الجيش، قبل بدء الديناميكية الثورية. وديناميكية الأحداث الحاصلة في لبنان، منذ أسابيع، تشبه هذه وإمكانياتها، بشكل كبير، بالرغم من «الهبل» البادي عند بعض المُنظمين. وليس منطقياً، ولا من العلم افتراض، أن الحراك الحاصل عاجز عن تحقيق تغييراتٍ نوعية مستقبلاً، ولو كان المستوى «الثوري» بالتحديد مُستبعداً.
سببٌ آخر لجواز المقارنة مع انتفاضات الماضي، يكمن في كون ديناميكيات الحراك الراهن تشبه ديناميكيات الأمثلة التاريخية. وقد عدّدت بعض أوجه الشبه في مقالي السابق، (الأخبارـ 4 أيلول 2015)، وأضيف إليها، الآن، ديناميكية مهمّة، تبدو لي أنها تختصر المعضلة الحالية المُثارة في النقاش، هي في الشكل الذي تأخذه الأحداث ومحطّات الحراك: على شكل حلقة من الفضائح المتتابعة في خندق السلطة، والتي تعطي انطباعاً أنّ انهياراً ما قد حصل في جهاز الحكم. هكذا بدأ الأسبوع الأول من الحراك، عبر «جرصة» انتقام وزير الشؤون الاجتماعية من الشاب طارق ملّاح، اليتيم الذي حرمته الوزارة من حقوقه، ثم تلاها «جرصة» فيديو وزير الداخلية، الذي، ولو أنه لا يمتّ إلى أحداث القمع، جرى اعتماده في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، على أنه إثبات لجرم، ولعلاقة ارتباط بأحداث ساحتي رياض الصلح والشهداء. منطق «الجرصة»، و»سقوط» السلطة، كان الطاغي، ويفرض نفسه، ويعطي المتظاهرين، والمنغمسين في مواقع التواصل الاجتماعي، شعوراً باحتمالات من المفاجآت الممكنة. هو شعور بأنّ تطوّرات مختلفة، وبديلة للحياة السياسية العاديّة، باتت الآن ممكنة، وقد كان المحرّك الإدراكي الأساسي عند جمهور المتحمّسين، وهو ما يميّز مجموع التطوّرات الحاصلة الآن، في العلاقة المستجدة بين قسم من الجمهور، والحقل السياسي والاعلامي، عن ديناميكيات أخرى، قد نشاهدها في حراكاتٍ أخرى تحصل في الأيام العادية، فيها أيضاً حشود، وتغطية إعلامية، وردود فعلٍ سياسية.
في تظاهرة 9 أيلول، يبدو أن هذا المنطق الخاص، هذه الديناميكية تحديداً، قد وصلت إلى مفترق طرق. وقد فشل المنظّمون في فهمها بشكلٍ كافٍ، وكادوا أن يطيحوا بمقوّمات ارتكازها، عبر تنظيمهم للتظاهر بشكل مؤطّر ومُستوعَب الحدود أكثر من قبل، ما سبَّب شعوراً بالخيبة، لا بل انتكاسة عند بعض فئات الجمهور المتظاهر، لأنّ هذه الفئات ربّما اعتبرت أن أفق المفاجآت أصبح محصوراً، وأصبحت الأحداث ربّما تكراريّة. فما النّفع، على المستوى النفسي للإنسان الناشط، وبعد أسابيع عدة من التورّط الشخصي في الحراك، من التظاهر، وملء الساحة باستمرار، فقط لملء الساحة؟ ولا شكّ في أنّ جزءاً من الجمهور كان يأخذ معانيه للنشاط من علاقة «المواجهة»، الرمزية أوالفعلية، مع قوّات الأمن، التي كانت تُقدّمها التجمّعات السابقة. وحرمانه من هذه كان بمثابة «خيانة» من قبل المُنظّمين (وقد تعدّدت انتقادات من نوع «أنكم أصبحتم مثل النظام» في مواقع التواصل الاجتماعي).
لكن لا يمكن للمرء لوم المنظّمين على كل ما يحدث. وتظاهرة ذلك اليوم برهنت أن هناك جسماً مثابراً من الجمهور، حوالى 4 آلاف شخص، مستعدٌ للعمل الجماعي، حتى في ظروف مناخية صعبة نسبياً. وديناميكية الحماسة، جرّاء انفتاح أفق الممكن، قد تتلاشى من تلقاء نفسها بفعل مرور الوقت وحده. إذ أن فاعلية الجرصة والفضيحة تعمل في الوقت القصير الذي يلي إعلان الفضيحة، بمنطق الإشارة بالإصبع والصراخ. والفضائح التي غذّت الحراك في أول أيامه تبقى فضائح صغيرة، ليست بمثابة «خيانة وطنية»، أو «تآمر على المتظاهرين»، أو أحداث من النوع الذي لا يُغتفر مع مرور الوقت. والطبقة السياسية أصبحت أكثر حذراً في تعاطيها مع الحراك، وبالتالي أقل قابلية لتقديم حججٍ لمنطق «الجرصة»، حتى أن صحيفة «المستقبل» بدأت تعنون صفحتها الأولى بعناوين تحتفل بالحراك.
كل ذلك يعني أن هذه الديناميكية، التي تجعل الحراك تجربة خارجة عن المألوف لفئات الجمهور المتنوعة، قد تتلاشى قريباً. وهو ما يضع جميع المنظمين أمام خيارين:
الخيار الأول: أن يحاولوا إعادة إحياء هذه الديناميكية، من خلال البحث عن صيغ أخرى للمواجهة مع السلطة وأجهزتها، على أن تسمح هذه الصيغ بمشاركة الجمهور المُتحمس، وألا تقتصر على الناشطين. قد يكون من المجدي في هذا الخصوص اعتماد خطوات مسرحية، تظهر أكثر «جدّية»، بالمعنى المظهري، مثل صوغ خطابٍ توجيهي للموضوعات الإدارية المتنوعة، يتمّ تكراره، وتفسيره في العلن، على أن يصبح مثل لازمة بالنسبة للسياسيين الذين، كونوا أكيدين، لن يتقيّدوا به، وقد يقدّمون بالتالي نماذج «جرصة» جديدة يمكن الاعتماد عليها لتحريك الناس. كذلك، على المنظمين أن يبتكروا صيغاً لإفساح المجال لأكبر عددٍ من فئات المجتمع المتنوعة، لإعلاء صوتها، والإعلاء من شأن صوتها. لتشعر الفئات المتنوعة، والمظاهر الاجتماعية المتنوعة (والناس في مظهرها أيضاً وليست فقط مطالب)، أن مكانها محفوظ في هذا الحراك. هنا قد يكون من المفيد التفكّر في واقع تكوين الجمهور المشارك في الحراك من الفئات المدينية الوسطى، وغياب الفئات المدينية الأخرى (والضاحية من المدينة)، والعمل على كسر هذا الحاجز من خلال الخطاب، ومن خلال النشاطات الرمزية. أما في موضوع ساحات التظاهر، فيجب تركها مفتوحة لكافة الأهواء التعبوية، على أن تقام نقطتين للتجمع، واحدة بعيدة من القوى الأمنية، وواحدة في تماس معها.
أمّا الخيار الثاني، المتاح للمنظمين: هو ما يُفترض بأي فريق جدّي في مطالبته بالتغيير السياسي القيام به، وهو أن يتحوّلوا إلى أحزاب سياسية، واضحة التنظيم والعقيدة، أو المنطلقات الفلسفية، أو الايديولوجيا، أو الأولويات المطلبية، سمُّها ما شئت. وهي الخطوة الضرورية في أي حال كان، لو استمرّ الحراك، او توقّف، وأصبح على المنظمين، والمتحمسين، هؤلاء «المتظاهرون بدوام كامل»، أن يعملوا في الأرض التعبوية في الأيام العاديّة. من المؤسف أن ينتهي حراك كهذا من دون أن يختزن رصيده المعنوي أي فريق، أو شخص، مستعد للمثابرة بالنضال، وهو ما يقدّمه التكوين الحزبي، إذ أن الأحزاب يحسب لها «ماضٍ»، و»تاريخ»، وهو ما لا يُحسب لشيء مصطلحي غليظ مثل «المجتمع المدني»، من غير الواضح إن كان يشير إلى صيغة تنظيمية، أو إلى وجدان، ولا يصحّ بالتالي للنضال التراكميّ، كما للتراكم النضالي. والكلام هذا يصحّ أيضاً بخصوص «المنظمات الشبابية»، وهي الأدرى بأنّ صفتها «الشبابية» ستضعها سريعاً في خانة مُستوعبة، ومحصورة، عند انتهاء الحراك. فهل من تلفزيون يستقبل ممثلاً «شبابياً»، في الأيام العادية، ليحاور سياسياً، أو حتى إعلامياً، في أيّ ملّف يخصّ الإدارة؟
لكن في حال استمرّت ديناميكية أفق المفاجآت، أو حيث وُجدت من جديد، على أي حزب، أو تنظيم، أن يعمل بالانسجام مع التنظيمات الأخرى كافة، وترك الخصوصيات المطلبية لمرحلة تالية. فالجمهور لن يقبل بغير ذلك، وجذب الجمهور هو دائماً أولوية، ولو كان الشعار الطاغي هو «الرّفض» بشكل فضفاض، أو مطلق. إن الحصار المفروض على الناس، من قبل طبقة اللصوص والمجرمين الحاكمة، لا يترك الكثير من الخيارات.
* باحث لبناني