كتلة «المستقبل» عقدت اجتماعاً استثنائيّاً للنظر في مسألة المجزرة الإسرائيليّة في عرض البحر. وبعدما ابتهلت واستنكرت، دعت الكتلة السلفيّة إلى عدم القيام بأي فعل يمكن أن يُحوّرَ الأنظار عن موضوع السفينة. خشيت الكتلة أن يقوم مقاوم (أو مُقاوِمة) بعمل مُقاوِم. بشار الأسد وسعد الحريري أصدرا بياناً مشتركاً بعد عقد لقاء حميم أرسلا فيه التحيّات (العَطِرة، طبعاً) إلى أهل غزة المحاصرين. وعباس ناصر أثنى على سعد الحريري وقال: «ليس غريباً على دولته أن يرعى شؤون مواطنيه» ــــ هنيئاً لناصر بالمُواطَنة في جمهوريّة «الشيخ سعد» ـــ مع أن سعد الحريري لم يتجشّم عناء الانتقال إلى الحدود أو وسط العاصمة النافر للترحيب بالعائدين، هو الذي لا يفوّت شبه «ماراثون» ولا يباركه
أسعد أبو خليل *
هناك من قال إنه صُدِم بفعلة إسرائيل. ليبيراليّون من كل حدب وصوب عبّروا عن ألمهم العميق في اللحظة فقط. المجزرة الوحشيّة في عرض البحر ترد في الصحافة العربيّة والغربيّة كأنها استثناء أو فعلة غريبة عن السياق التاريخي للصهيونيّة. الكلامُ هو دائماً عن خرق للقانون الدولي وللشرعيّة الدوليّة، وينسى بعض فقهاء القانون الدولي والشرعيّة الدوليّة أن الكيان الغاصب مناف للشرعيّة الدوليّة وللقانون الدولي في وجوده نفسه، وفي حدّ ذاته. ثم، يجب النظر بعين العطف إلى خرق القانون الدولي ومناهضة ما يُسمّى اليوم «الشرعيّة الدوليّة» لأنها كانت خير معين لوجود إسرائيل ولعدوان إسرائيل عبر التاريخ المُعاصِر. إن التمسّك بالقانون الدولي والشرعيّة الدوليّة يمثّل سذاجة وغباوة ومصدر قوّة للعدو. يجب النظر إلى أولويّة تحرير فلسطين على أنه يفوق في الأهميّة مسألة التمسّك بأهداب القانون الدولي (الذي أصدر حكماً قاطعاً ضد الولايات المتحدة في المحكمة الدولية في لاهاي عندما لغّمت أميركا الموانئ في نيكاراغوا عهد ريغان ولم يؤدِّ الحكم إلى عقاب من أي نوع ضد الجاني).
العمل السلمي ضد إسرائيل لا يُواجه بعمل سلمي مضاد. وهذا التحرّك الإنساني للسفن (وضع الكاتب الصهيوني، توماس فريدمان، مؤلّف مبادرة السلام العربيّة، كلمة «إنسانيّة»بين هلاليْن للتشكيك في نيّات السفن السلميّة، وكأن النشطاء قادرون بمساعداتهم الإنسانيّة وسكاكين المطبخ على متن السفينة على ارتكاب أعمال إرهابيّة، وإن لم تتمنّع الدعاية الصهيونيّة عن ربط النشاط الإنساني بنشاط تنظيم القاعدة الإرهابي) يدخل في إطار العمل السلمي الذي يُطلب من الشعب الفلسطيني الاقتداء به. لكنّ العمل السلمي والنشاط الدبلوماسي لمواجهة إسرائيل لم يكن غائباً عن العمل العربي الرسمي منذ إنشاء الكيان الغاصب، وحتى قبل إنشائه. ألم تضغط الأنظمة العربيّة على الثورة الفلسطينيّة الكبرى عام 1936 لوقفها ولترك الأنظمة العربيّة تقوم بواجبها الدبلوماسي السرّي دوماً؟ ألم يؤدّ تجميد الثورة إلى إعطاء بريطانيا والحركة الصهيونيّة فرصة ذهبيّة لالتقاط الأنفاس وللعمل السرّي من أجل تقويض عود الثورة من أساسه، كما أن الثورة تحوّلت في مرحلتها الثانية إلى تقاتل وتذابح داخليّين؟ ألم تطلب الإدارة الأميركيّة عام 1967 رسميّاً من نظام جمال عبد الناصر التريّث وعدم القيام بأي عمل عسكري لبدء الحرب تحت طائلة المسؤوليّة؟ ألم يكن تماشي النظام المصري مع المشيئة الأميركيّة ثاني أكبر خطيئة عربيّة رسميّة منذ إنشاء الكيان الغاصب؟ ولقد وعظت إدارة أوسلو منذ تكوينها لانتهاج العمل الدبلوماسي بديلاً من الكفاح المسلّح، ممّا أعطى عناصر قوّة لإسرائيل وأضعف الوضع الفلسطيني برمّته، وحتى الوضع التفاوضي الفلسطيني. عندما تنبذ سلطة عبّاس ـــــ فيّاض ـــــ دحلان الكفاح المسلّح في المطلق وتدعو إلى إعداد أطباق «مسخّن» عملاقة، ماذا تُبقي من عناصر تفاوضيّة؟ ألم يكن الكفاح المسلّح (أو الإرهاب بالمفهوم الإسرائيلي) أقوى عنصر قوّة عند ياسر عرفات عندما كان يتفاوض دوليّاً بشأن القضيّة الفلسطينيّة (لهذا فإن عرفات بالرغم من مساوئه، وهي أكثر من أن تُحصى، رفض بعناد أن ينبذ الكفاح المسلّح، وأبقى فريقاً مُقاتلاً ومُسلّحاً في داخل حركة فتح، حتى لو كان هدفه سياسياً، أي من أجل الموقع التفاوضي لمنظمّة التحرير)؟
التمسّك بالقانون الدولي والشرعية الدوليّة سذاجة وغباوة ومصدر قوّة للعدوّ
ونحن في لبنان خَبِرنا أخطار التعاطي الدبلوماسي مع العدو الإسرائيلي منذ إنشاء الكيان. كان لبنان يرسل إشارات حب ووئام على مرّ السنين عبر الحكومات الغربيّة وعبر لجان اتفاق الهدنة إلى إسرائيل لطمأنتها إلى غياب أي نيّة للبنان مشاركة الدول العربيّة في حروبها، عندما كانت الدول العربيّة تحارب قبل سنين. كانت دبلوماسيّة فؤاد شهاب وشارل حلو هي دبلوماسيّة الضعف والتخاذل والاستسلام أمام إسرائيل، وهذا لم يمنع إسرائيل من الاحتلال والاعتداء ومن شنّ الحروب. كذلك فإن نظام أمين الجميّل (وجريدة «النهار» لصاحبها غسّان تويني الذي أدّى دور «المُنسّق» للمفاوضات اللبنانيّة ـــــ الإسرائيليّة قبل أن يطمئننا من موقعه في الأمم المتحدة عام 1978 إلى أن مجرّد التوصّل إلى القرار 425 هو ذروة النجاح الدبلوماسي اللبناني، وأنه كفيل بفرض انسحاب على إسرائيل) وعظ ضد مقاومة إسرائيل منذ وصل «العنيد» بدعم إسرائيلي إلى سدّة الرئاسة، وشدّد على أن لبنان سيدهش العالم بسلامه مع إسرائيل. لكنّ الدليل الأبلغ هو في حكومة السنيورة، إذ إنها حظيت بأكبر دعم أميركي لحكومة عربيّة منذ دعم الحكومة الأردنيّة أثناء مجازر عمّان، ودعم رجعيّي اليمن في حرب اليمن في الستينيات والتي شاركت فيها إسرائيل إلى جانب قروسطيّي الملكيّة. فالسنيورة حظي بتربيت على كتفه من جورج بوش نفسه، وجلس في المكتب البيضاوي مدّة تناهز عشرين دقيقة (وهي كافية لتناول المرطّبات وللسؤال التفصيلي عن الطقس في لبنان) ولكنه لم يقدّم إنجازاً واحداً لسيادة لبنان إزاء احتلال إسرائيل واعتدائها. وصحف آل الحريري في لبنان كانت تنشر أخباراً وعناوين عاجلة عن سرعة انسحاب إسرائيلي من الغجر أو من شبعا، أو من الاثنين معاً، على مدار أشهر حكومة السنيورة في عهدها الذهبي ـــــ المذهبي. لكنّ سامي الجميّل أفصح عن المكنون في مقابلته في العدد الأخير من مجلة «الأفكار»، عندما قال إنه يدعو إلى مفاوضات مع إسرائيل، ويرفض المقاومة العسكريّة ضد إسرائيل من أساسها ـــــ خذوا أسرارهم من صغارهمكذلك فإن الناشط الفلسطيني المُسالم، مبارك عوض، الذي ينتمي إلى طائفة «الكويكرز» في شقها المُسالم ـــــ نيكسون كان ينتمي إلى الشقّ غير المُسالم من «الكويكرز» ـــــ افتتح مركزاً للنضال اللاعنفي في القدس المّحتلّة في منتصف الثمانينيات، فلم تنتظر إسرائيل كثيراً قبل طرده من فلسطين المُحتلّة عام 1988 ومنعه من العودة. إسرائيل تعاملت بالوحشيّة نفسها مع انتفاضة الشعب الفلسطيني المُسالمة ومع انتفاضته المسلّحة. أي إن لغة القوّة تبقى أفعل من لغة المُسالمة في أي تعامل مع إسرائيل. ويمكن إدراج كل عناصر القوّة في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة بتاريخها المُعاصر تحت باب مكاسب الكفاح المُسلّح: من ترسيخ الهويّة الفلسطينيّة على الأجندة الدوليّة بعدما أشار القرار 242، بموافقة عربيّة، إلى الشعب الفلسطيني كـ«لاجئين»، إلى كسب اعتراف دولي بفلسطين يفوق نسبة الاعتراف الدولي بإسرائيل ـــــ قبل أن تنعكس المُعادلة بعد سلام أوسلو، إلى فرض اعتراف عربي بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه بعيداً عن المشيئة المشبوهة للهاشميّين ـــــ إلى إنتاج منظمة التحرير الفلسطينيّة نفسها كبوتقة للتعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني، مع أن الأنظمة العربيّة جمعاء لم تفوّت فرصة إلا حاولت التدخّل بخبث في الشأن الداخلي الفلسطيني، إلى إعلاء معنويّات الشعب الفلسطيني بعد خيبات لحقت به من قادة مثل الحاج أمين وأحمد الشقيري اللذين فشلا في إدارة دفّة العمل السياسي والعسكري على حدّ سواء.
والمشهد العربي أشبه بلوحة إعلانات تُلصق عليها أوراق نعي مع مشاهد لفنانين وفنّانات وأخبار رياضيّة متنوّعة. لا يمكن الركون إلى ترداد نغمة العجز والتواطؤ العربي الرسمي، لأن بعضاً من الشعب العربي تقاعد مُبكّراً عن المشاركة في محاولة التأثير على الحكومات العربيّة. إن التظاهرات لدعم نضال شعب فلسطين في لندن وأوسلو وباريس وعدد من العواصم العربيّة، أو في عواصم بلدان إسلاميّة غير عربيّة مثل باكستان وإيران وماليزيا وإندونيسيا، تفوق في عددها أعداد المتظاهرين والمتظاهرات من أجل فلسطين في الدول العربيّة ذات الكثافة السكّانيّة مثل مصر. كذلك فإن الذي (والتي) شارك في الاعتصام في وسط بيروت تنديداً بالمجزرة الإسرائيليّة الأخيرة، فوجئ بهزال المشاركة الشعبيّة في اليوم الأول، على الأقل.
وكانت الأعلام التركيّة العملاقة (على وزن صحن الحمّص العملاق) والشعارات التركيّة، وحتى صور كمال أتاتورك طاغية أيضاً، في اليوم الأول والثاني. والإعلام العربي الموالي لنضال شعب فلسطين (مثل «السفير» و«الأخبار» و«القدس العربي») ذهب بعيداً في تصوير الموقف التركي. لم يكن الموقف التركي في مواجهة المجزرة الإسرائيليّة أو في الرد علىها، بحجم التوقّعات والتمنيّات العربيّة الشعبيّة. كان خطاب أردوغان أقل بكثير من المستوى، وخصوصاً أن إلقاءه تأخر ساعةً عن موعده لعقده اجتماعاً طويلاً مع القادة العسكريّين الذين يمثّلون الجناح الأكثر مناصرة لإسرائيل في الدولة التركيّة. إن الكلام العاطفي والشاعري عن فلسطين الصادر عن حكام لا يجدي نفعاً، وخصوصاً أن حكاماً عرباً قالوا مثله وأكثر من قبل، وانتهى بعضهم في الإصرار على الاستسلام أمام حضور في الكنيست الإسرائيلي.
خطاب أردوغان كان أقلّ من المستوى وكلامه انتقل إلى مصاف الشعر الرديء
وبعض الصحافة العربيّة هلّلت لقرار الحكومة التركيّة إلغاء ثلاثة اتفاقات تدريب بين القوات المسلحة التركيّة وجيش العدو من دون تحليل أهميّة الإلغاء أو عدمه. نسي بعض الصحافة العربيّة أن هناك مئات الاتفاقات العلنيّة والسريّة، العسكريّة والأمنيّة والاستخباريّة، بين تركيا وإسرائيل، وهي لم تُلغَ. لم نسمع خبراً واحداً عن إعادة النظر فيها. لم نسمع خبراً عن مراجعة رسميّة تركيّة جديّة لطبيعة العلاقات بين الدولتيْن أو لتقويم تركيا التاريخي (الإيجابي) لدولة إسرائيل. الثابت في موقف تركيا من إسرائيل بقي هو إيّاه: من حيث الاعتراف بالدولة أو بمستوى من التعاون العسكري والاستخباري بين الدولتيْن أو من حيث السعي الدؤوب للتوصّل إلى سلام بين إسرائيل وسوريا من جهة وبين إسرائيل وحماس من جهة أخرى.
قامت الإدارة الأميركيّة بواجبها في هذا الصدد من تذكير لتركيا، العضو في حلف «الناتو»، بواجباتها الاستراتيجية وارتهاناتها، وسرعان ما ظهر تأثير التذكير، وانخفض سقف الرد أو الشروط التركيّة على الفور. كانت تركيا في البداية تطالب بإطلاق الركّاب وفك الحصار عن غزة. لكن بقدرة قادر تحوّل الشرط التركي من طلب فكّ الحصار عن غزة إلى طلب اعتذار إسرائيل. والكلام عن مرافقة البحريّة التركيّة لسفينة «رايتشيل كوري» لم يُترجم في البحر. وتقديم الاعتذار لن يكلّف شيئاً، وقد قدّمته إسرائيل من قبل عندما أهانت، بالعرف الدبلوماسي، السفير التركي (المُبتسم) في إسرائيل. وفكّ الحصار عن غزة ما عاد مطلباً مُلحّاً، لا من تركيا ولا من غيرها. وكلام أردوغان انتقل إلى مصاف الشعر الرديء، من نوع أن القدس هي بمثابة إسطنبول، وهو كلام مُرواغ. ولو تعرّضت إسطنبول لاحتلال، لأمر أردوغان القوات المسلّحة التركيّة بالتحرّك الفوري لصدّ الاحتلال. ولو كانت غزة بمعزّة المدن التركيّة الأخرى، لكانت البحريّة التركيّة تلقّت أوامر لفكّ الحصارهذا لا يعني أن الموقف التركي غير متقدّم على الموقف العربي الرسمي، أو أن الحكومة التركيّة لا تحترم نفسها أكثر من أنظمة الذلّ العربيّة. السلحفاة المتعثّرة تستطيع أن تتقدّم على الموقف العربي الرسمي. أما الموقف الإيراني، فقد عبّر عنه الرئيس الإيراني بتقديم نبوءة عن زوال إسرائيل، وأضاف في مقابلة فرنسيّة أن زوال إسرائيل لا يتطلّب بالضرورة عملاً عنيفاً ـــــ أي إن زوال إسرائيل يمكن أن يأتي من جرّاء إعصار مُدمّر ـــــ. لكن كلام التنجيم مناف للدين وللعقل معاً، وتركيا تسدّ فراغاً عربيّاً هائلاً. هي تريد أن تعوّض عن خسارتها الفادحة جرّاء إذلالها على أيدي المجموعة الأوروبيّة التي لم تنفك عن وضع شروط تعجيزيّة أمام تركيا للانضمام إلى المجموعة. وفاليري جيسكار ديستان قالها صراحة قبل سنوات، عندما أشار إلى إسلام تركيا كونه مشكلة. وتركيا تريد أن تفتح آفاقها شرقاً بعدما أُقفلت الأبواب أمامها غرباً. والشرق الفسيح ينتظر دوراً نافذاً ليعوّض عن الارتهان العربي الكامل أمام كل إدارة أميركيّة. النظام العربي الرسمي حوّل كلام أوباما المعسول إلى تغيير نوعي في التوجّه الأميركي نحو الشرق الأوسط (مع أن قراءة الاستراتيجيا الأميركيّة الجديدة لعقيدة أوباما توحي عكس ذلك، ولنا عودة إلى تلك الاستراتيجيا). كذلك فإن الحسابات التركيّة الداخليّة تؤثّر على المواقف السياسية الخارجيّة للحكومة التركيّة. فأردوغان يريد أن يحكم سيطرته على المؤسّسة العسكريّة ـــــ الاستخباريّة من خلال إصدار مواقف لفظيّة تصيب الجنرالات الأتراك بالإحراج الشديد أمام الرأي العام التركي.
ليست السفينة أو الأسطول الإنساني هما القضيّة. وليس تخفيف الحصار وحده هو القضيّة. لقد وضعت حكومة الكيان الغاصب جدولاً بما يجب منعه وبما لا يجب منعه. فلقد اكتشف السناتور جون كيري (وهو من عتاة الصهاينة في مجلس الشيوخ) أن المعجّنات الإيطاليّة ممنوعة عن أهل غزة من قبل سلطة الاحتلال. كذلك فإن إسرائيل تقرّر حجم الوحدات الحراريّة التي يستطيع أهل غزة أن يتلقّوها بصورة يوميّة (وهي أقل من الوحدات الحراريّة لبرامج الحمية الغذائيّة في مراكز الحمية المنتشرة في المناطق البورجوازيّة من لبنان). وجريدة «الشرق الأوسط» ساعدت إسرائيل عندما وضعت على صدر صفحتها الأولى صورة لجندي إسرائيلي يساعد «بلطف» ناشطة مُبتسمة من على متن سفينة «رايتشيل كوري»، وذلك لتحسين صورة الجندي الإسرائيلي عند الرأي العام العربي (وليس هذا بغريب على الإعلام السعودي، وخصوصاً إعلام الأمير سلمان بن عبد العزيز الليكودي الهوى، كذلك فإن موقع «إيلاف» المتخصّص في تسليع المرأة وتسويقها سوقيّاً، إضافة إلى نشر ما يسرّ خاطر العدو، نشر مقالاً مؤيّداً لحق إسرائيل في قتل المدنيّين والمدنيّات في عرض البحر). هذه هي البنود السريّة لشروط التطبيع الذي يسبق السلام في مشروع المبادرة العربيّة للسلام (وهي، كما يقول عمرو موسى، ليست معروضة على إسرائيل إلى الأبد ـــــ أي إنه من الممكن أن تسحب الدول العربيّة المبادرة من التداول بعد قرن أو قرنيْن من الزمن، وفي هذا إحراج ما بعده إحراج لإسرائيل).
المشكلة أن هناك من يعترض على أسلوب سفن المساعدات الإنسانيّة من أساسه، كما أن هناك من يعترض على نهج مقاطعة إسرائيل. مع هؤلاء يصح التساؤل: ما المطلوب؟ إذا كانت المقاومة العسكريّة منبوذة ومُحتقرة، فلماذا تُنبذ المُقاطعة السلميّة لإسرائيل ومن يدعمها؟ ما هو البديل من المقاطعة السلميّة والمقاومة العسكريّة؟ هل هناك بديل آخر غير الاستسلام المُذلّ؟ لكنّ سفن المُساعدات الإنسانيّة، على إنسانيّتها، لا تعفي من واجبات المقاومة بكل أشكالها، بما فيها المقاومة العسكريّة. نهج المساعدات الإنسانيّة يُلزم داعمي الشعب الفلسطيني المُحاصر وداعماته في الدول الغربيّة التي، لأسبابها الخاصّة والمُتعلّقة بالتعاطف إما مع العنف الصهيوني وإما مع معارضة العنف المُعادي للصهيونيّة، تعارض كل أساليب الكفاح المُسلّح الفلسطيني خاصّة، والعربي عامّة.
إن حركات المساندة الغربيّة لحركة التحرّر الفييتنامي ولثورة السود ضد نظام الفصل العنصري في أفريقيا لم تشترط نبذ العنف شرطاً للمساندة. والاقتداء بسفن المساعدة يمكن أن يعزّز منطق الضغوط الحكوميّة الغربيّة للجم الجماح الثوري العربي، وإن كان في مرحلة انكفاء. للشعب الفلسطيني الحق في دعوة سفن مساعدة وسفن محمّلة بما يتوافر من سلاح. لكنّ إسرائيل والنظام العربي الرسمي تعاونا على تجريم أيّ استيراد (يُسمّى «تهريباً» بالمعنى الصهيوني) للسلاح، لا من أجل مقاومة إسرائيل فقط بل حتى للدفاع عن الذات. ومساعدة «الرجل الأبيض» مشكورة، لكنّ للرجل الليبيرالي الأبيض حسابات تختلف عن حساباتنا. نعوم تشومسكي هو آخر مثال. هذا الذي يقارع الصهاينة والدولة الأميركيّة بشجاعة، غادر لبنان وأعطى مقابلة للتلفزيون الإسرائيلي قال فيها:
«أنا أنظر إلى نفسي كمؤيّد لإسرائيل». يجب أن نستفيد من مساعدة تشومسكي على على ألا تخضع مسيرة تحرير فلسطين ومقاومة إسرائيل لأجندة تقبل بحلّ الدولتيْن (وهذا هو موقف تشومسكي والرفيق نورمان فينكلستين). وسفن المُساعدة قد تكون نافعة وقد تكون ضارّة. لقد هدفت إلى فكّ الحصار وتخفيف معاناة أهل غزة. لكنّ حملة السفن فشلت في الهدفين: فلا الحصار فُكَّ ولا المُساعدات وصلت، كذلك فإن سفينة «رايتشيل كوري» أعطت إسرائيل فرصة ذهبيّة كي تستعين بحملات شركات علاقات عامّة لتحسين صورتها ولتحويل قتلة الجيش العدوّ إلى فرقة من الكشّافة المحترفين.
تحرير فلسطين عمل طويل وشاق. والرحلة تمرّ، كما أصرّ العظيم جورج حبش، في كلّ العواصم العربيّة من دون استثناء. وحملة السفن قد ترفد، وقد لا ترفد، عمليّة التحرير والمقاومة. لكنّ الحملة قد تصبح مضرّة إذا ما تصاعدت الحمّى الليبيراليّة التي تصيب اليسار العربي بالقشعريرة وتدفعه إلى محاكاة الرجل الأبيض في تجليّاته الليبيراليّة، لأن الرجل الأبيض حجّة في كلّ أطواره، ولليميني العربي واليساري العربي على حدّ سواء. ولكن يجب ألّا يغيب عن الأذهان أن الرأي العام العالمي يزداد عداءً نحو إسرائيل، لكنّ قدرة إسرائيل على ارتكاب جرائم الحرب لن تقلّ ما دام الراعي الأميركي يحميها مهما كان، وفي كلّ الظروف وفي كلّ الإدارات المُتعاقبة. الـ«فلوتيلا» أتت، و«فلوتيلا» غيرها ستأتي، لكنّ «فلوتيلا» التحرير لن تنطلق من مدن غربيّة. «فلوتيلا» التحرير ستنطلق من المخيّمات ومن قلب الحصار، وهي مدجّجة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)