سلامة كيلة *ربما يكون الموقف الأخير للحكومة التركية في ما يتعلق بقافلة الحرية هو الذي يستأهل بكل الاهتمام، ويمثل تغيراً مهماً يجري، لكن السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف نفهم هذا الموقف؟
لا بد من أن نلاحظ أن تركيا كانت منخرطة في سياسات الحلف الأطلسي، كونها جزءاً منه، وفي ذلك كانت في تحالف وثيق مع الدولة الصهيونية، وكانت المرتكز الأميركي الثاني بعدها (بعد فقدان المرتكز الإيراني سنة 1979). لكنها كانت تطمح إلى أكثر من ذلك، فعملت على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأن لها موطئ قدم في أوروبا، لكن سنوات من «الزحف» للحصول على الموافقة الأوروبية باءت بالفشل. ولن نبحث هنا في أسباب ذلك، ولا في الأسباب التي جعلت البلدان الأوروبية الرئيسية ترفض انضمامها، أو تماطل لعقود أقنعت النخب التركية بأن أوروبا لا تفتح لها أبواب الانضمام. ويمكن أن يكون هذا الشعور الذي تلمّسه الشعب قبل النخب هو الذي أفضى إلى نجاح التيار الإسلامي المرتبط بالشرق (حزب أربكان الذي طرد من الحكومة لأنه ليس علمانياً، وهو جزء من حركة الإخوان المسلمين)، ثم إلى نجاح حزب العدالة والتنمية المنشق عن حزب أربكان في سياق تشكيل «إسلام علماني»، لكنه يحمل الميل الشرقي، رغم أنه عمل على تطبيق كل الشروط التي طالب الاتحاد الأوروبي بها لتسهيل الانضمام إليه.
وأظن بأن التحوّل الأهم تمثل في ميل البرجوازية التركية إلى الاتجاه شرقاً كي تكون قوة لها وزنها بدل أن تكون ملحقة في سياق أوروبي متبلور ويمتلك التطور الأعلى. هنا نلمس أن هذه البرجوازية بدأت في السير نحو تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الشرق (البلاد العربية والإسلامية) على أمل أن تصبح قوة مهيمنة، وخصوصاً أنها الأكثر «تطوراً» بين برجوازيات كل هذه البلدان. وهنا باتت مصالحها تتطابق مع حزب العدالة والتنمية، وأصبح هذا الحزب أكثر مقدرة على المسك بالسلطة، وهو الأمر الذي جعله يتجه إلى ثلم سيطرة الجيش وتهميش دوره السياسي. وهذا ما تحقق جزء منه في السنوات الماضية، ويخوض الحزب معركة من أجل إكماله من خلال التغييرات الدستورية التي يسعى إلى إنجاحها عبر استفتاء شعبي. وسنلمس أن حكم حزب العدالة والتنمية قد وفّر للبرجوازية بيئة اقتصادية أفضل من خلال الاستقرار الذي أوجده بعد عقود من عدم الاستقرار الحكومي، وكذلك من خلال الحرب التي شنّها ضد الفساد المستشري الذي كان يضرّ بمجمل الاقتصاد.
هذا الميل فرض حتماً تغيير التصورات عن العلاقة بالدولة الصهيونية، واختلال العلاقة التي تقيمها الولايات المتحدة بين مرتكزيها. لكن تركيا تقدمت ببطء في تغيير طبيعة العلاقة مع الدولة الصهيونية حيث عملت على «التخفيف» منها، وعدم صدم «المشاعر» أكثر مما كانت تعمل على قطع العلاقة أو الدخول في صدام. فهذه ربما انبنت على تصورات أخرى، أو كانت نتاج ما هو أكثر من هذا الميل الشرقي.
باتت سياسة تركيا الشرقية هي مركز سياستها العالمية
إذا تلمسنا تطورات الوضع العالمي بعد الأزمة المالية التي حدثت في أيلول/ سبتمبر 2008، فسنلحظ أن الضعف الذي باتت تعيشه الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي تفكك الهيمنة الإمبريالية الأميركية وضعف إمكانية هيمنة قوى أخرى، فرض بروز قوى جديدة باتت تسعى لأن تكون جزءاً من القوى المهيمنة، التي منها الصين وروسيا، ومنها أيضاً الهند والبرازيل، وهي قوى تمتلك مستوى من التطور أضعف من البلدان الرأسمالية الأساسية لكنها مؤهلة ــــ كما تعتقد ــــ لأن تصبح قادرة على أن تكون مثلها. وقد سمحت الأزمة لها بأن تطور من قدراتها لكي تفرض ذاتها، ولتكون جزءاً من «عالم متعدد الأقطاب». هل تنجح؟ ربما لا، لكن المهم هنا هو أن تركيا باتت تعتقد أنه أصبح بمقدورها أن تدخل هذا العالم. وبالتالي باتت مطامحها أكبر من أن تقبل بدور «خجول»، وتغلغل بطيء في الشرق. لقد اعتقدت أنها باتت المهيأة لأن تصبح هي مركز الشرق وممثله في العالم المتعدد الأقطاب. وهذا الوضع ربما جعلها تندفع أكثر نحو الشرق من أجل أن تفرض هيمنتها، حيث إن تحوّلها إلى قوة عالمية يرتبط بهذه الهيمنة التي سوف تقود إلى انتقالها إلى مرحلة أعلى في التطور تكون قادرة عبرها على أن تصبح قوة عالمية.
هنا باتت سياستها الشرقية هي مركز سياستها العالمية، وهذا ما يجعلها في تصادم مع الوضع الذي تأخذه الدولة الصهيونية ضمن الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة. فتركيا تسعى لأن تهيمن هي وليس الدولة الصهيونية. وبالتالي أصبح من الواجب تقزيم إسرائيل، وربما كان ذلك هو أساس التصعيد الذي باتت تمارسه بعد «أسطول الحرية»، والذي يقوم على الضغط الشديد عليها و«وضعها تحت القانون» بعدما كانت، وما زالت، فوقه. لكن يجب أن نلحظ أن ذلك لا يعني أنها باتت معنية بتحرير فلسطين أو إنهاء الدولة الصهيونية، فإن أكثر ما تريده هو تقزيم دورها، وتحوّل تركيا إلى «زعيمة» الشرق.

هل سينجح ذلك؟

ليس من السهل أن تنجح هذه الاستراتيجية، لأنه رغم وضع تركيا الاقتصادي الذي لا يعاني مشكلات كبيرة كما في اليونان أو إسبانيا أو البرتغال، إلا أن الأزمة العالمية سوف تطالها، وهي تعاني مشكلات يمكن أن تتطور أكثر. كما أن اللاعبين الكبار، سواء أميركا أو أوروبا، أو حتى اللاعبين الجدد مثل الصين، سوف يعملون على تقويض هذه الاستراتيجية. فالشرق العربي خصوصاً أكثر حساسيةً من أن يترك لسيطرة تركية. ورغم أن هيلاري كلينتون أشارت إلى أن تركيا كما الدولة الصهيونية هي حليفة لها، فإن الدولة الصهيونية هي المرتكز الأول والأساس بالنسبة للولايات المتحدة، وهي نتوء لها، وقاعدة اقتصادية مستقبلية لا إمكانية لأن تستقل عنها، بينما سيفضي توسع تركيا إلى تحوّلها إلى قوة إقليمية مسيطرة. لهذا ستجد تركيا ذاتها في صراع مع الولايات المتحدة ربما يقود إلى هزة اقتصادية أو انقلاب عسكري يطيح كل هذه الاستراتيجية.
وإذا كان كل هذا الصراع مفيداً على صعيد القضية الفلسطينية لأنه يسهم في كشف «وحشية» الدولة الصهيونية، فإن الخطر هنا هو أن العرب هم الغائب الكبير، رغم أن القضية هي قضيتهم والصراع يجري على ثرواتهم.

* كاتب عربي