إيلي شلهوبالسياسة نوعان: واحد نضالي مبدئي. توجّهه العقائد. تحكمه الأخلاقيات والمبادئ. ويميّزه الاستعداد للتضحية حدّ الاستشهاد. أما الثاني فبراغماتي. يوجهه الهدف المطلوب تحقيقه. يحكمه غياب الضوابط حدّ الماكيافيلّية. وتميّزه حسابات الربح والخسائر. هناك طبعاً خطوط حمر يفترض عدم تجاوزها، هي تلك المرتبطة بإنسانية الإنسان. بكينونته. بحقّه في الحياة بكرامة. بحقّه في العدل والمساواة والحرية... وهذا يستتبع حكماً مجموعة من المحرّمات، يمكن اختصارها بـ«الظلم» ومتفرّعاته، إن لناحية التسبّب به أو المشاركة فيه أو القبول به أو حتى السكوت عنه. لكن هذه تبقى أحكاماً قيمية لا شأن لها بجوهر الفعل السياسي. هي حكاية خير وشر. أبيض وأسود...
اعتماد أيّ من الاتجاهين خيار فردي، لكلّ من يقارب الشأن السياسي. وليس بينهما واحد أكثر وطنية من الآخر. هو اختلاف في النهج، في الممارسة، في العقلية. اختلاف في مقاربة الطريق التي توصل إلى الغاية المنشودة، مهما تكن، سواء كانت الوصول إلى السلطة، أو تحقيق مصالح البلد كما يراها الشخص المعني.
المشكلة كل المشكلة عندما تصبح ممارسة العمل السياسي بالتمنّي. محاولة لإسقاط ما هو مرغوب على ما هو حاصل. نوع من إنكار الواقع، أو التعامل معه بسذاجة الجاهل. لعلّ أوضح الأمثلة الآنية يمكن استخراجها من الساحة العراقية، حيث معضلة تأليف الحكومة لا يزال دونها عقبات، جزء كبير منها مرتبط بالمشكلة السالفة الذكر.
هناك مثلاً الحديث عن تدخل إيراني في العراق، وهي مقولة تحتل الحيّز الأوسع من المشهد السياسي هناك، سواء عند حلفاء طهران أو خصومها. ليس واضحاً ماذا يتوقع هؤلاء من إيران التي خاضت حرباً ضروساً مع العراق استمرّت ثماني سنوات. عداءٌ لم يقف مع وقف النار، بل استمر 15 عاماً إضافية كان فيها العراق مرتعاً لمناهضي النظام الإسلامي (الذي ردّ بالمثل طبعاً). وما إن سقط صدام حتى انتشر 150 ألف جندي أميركي وغيرهم عشرات الآلاف من القوات الأجنبية في بلاد الرافدين التي تحوّلت مرتعاً لأجهزة استخبارات العالم كلّه من إسرائيل إلى جزر الماو ماو. هل يتوقعون أن تدير إيران ظهرها وتقول «لا شأن لي بما يجري»؟ من الغباء الاعتقاد بأن أمراً كهذا سيحصل. الملف العراقي بالنسبة إلى إيران ملف أمن قومي، لا يقل أهمية عن الملف النووي إن لم يتجاوزه، فضلاً عن أن بين البلدين 1400 كيلومتر من الحدود الآهلة.
لا يعني ذلك أبداً تسويغاً للتدخل الإيراني في الشأن العراقي، وهو للمناسبة بدأ يُستغلّ من الأطراف العراقية الموالية لطهران من أجل تحقيق مآرب خاصة لا شأن للإيرانيين بها. كأن يحلّ طرف ما نفسه من عهد قطعه أو أن يقوم بما هو غير مقبول للآخرين أو يرفض طلباً من حليف أو صديق والحجة دائماً: إيران.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الحال مع سوريا، برغم الصحراء الشاسعة التي تفصلها عن المناطق العراقية المأهولة. ألم يطبع صراع البعثين الخريطة السياسية في المنطقة لعقود؟ هناك أيضاً مخاوف دمشق من عدوى الاقتتال الأهلي وانتشار السلفية. بل حتى المخاوف من تقسيم العراق وانعكاساته على الوضع السوري الداخلي، فضلاً طبعاً عن الانتشار العسكري الأميركي الذي سبق أن وُظّف في غارة أميركية داخل الأراضي السورية.
هناك أيضاً مخاوف السعودية من دولة شيعية تدعمها إيران على الحدود الصحراوية الشمالية، مع ما لذلك من انعكاسات على الوضع الداخلي السعودي، وخاصة في المنطقة الشرقية. هي السعودية نفسها التي وجدت في العراق متنفّساً لـ«المجموعات السلفية الجهادية» المنتشرة فيها، فضلاً عن أنها تسعى إلى تصدير الصراع داخل العائلة المالكة، ومعه صراع المواطنية (درجة أولى وثانية وثالثة) إلى بلاد الرافدين، هذا الصراع الذي لا تزال عاجزة عن حلّه في الداخل السعودي.
أما تركيا، التي يفصلها عن الداخل العراقي شريط عازل كردي، فقد بات واضحاً، في أعقاب استدارتها إلى الشرق، أنها تسعى إلى حشر أنفها في كل الصراعات، لا لشيء سوى أن مصالحها تقتضي جواراً فيه «صفر مشاكل».
بديهي أن هذه الدول لا تتمتع كلها بالثقل نفسه داخل بلاد الرافدين. بات واضحاً أن الصراع الأساس ينحصر بين الولايات المتحدة، القوة المحتلة التي يبدو جلياً أنها في مرحلة تراجع، وإيران. صراع يدور على المستويات كلها، يتقدّمها المستوى الأمني. تليهما في التأثير سوريا وتركيا، ومن ثم السعودية وباقي الدول المعنية. نفوذ يعززه ضعف العراق، الذي لم يبرأ بعد من آثار الغزو، ولم يتخلّص بعد من نير الاحتلال. ضعف تفاقمه حال التمزّق العرقي والديني والمذهبي والعشائري فيه.
يبقى السؤال: هل يتوقع أحد حقاً نجاح شخصية تجاهر بالعداء لإيران أو الولايات المتحدة (خاصة وهي تستعد للانسحاب) أو سوريا، أو حتى لتركيا، في تسلّم مقاليد السلطة في بغداد؟ القرار لا شك عراقي. لكن هناك قدرات إقليمية على ممارسة الفيتو يجب التعامل معها بواقعية، وإلا فلن تجد معضلة العراق حلاً في المدى المنظور.