محمد صادق الحسيني* ثمة كمّ كثير يمكن أن نختلف عليه في الخطاب كما في الممارسة بخصوص إدارة شؤون البلاد والعباد من قبل الرموز والتيارات التي تداولت على حكم البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية، بما فيها إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد الحالية!
لكن الذي لا يمكن أن نختلف عليه، إذا كنا فعلاً للإسلام كدين وللثورة كمنهج ولإيران كوطن مخلصين، وهو ما يفترض أن نكون كذلك جميعاً، هو الآتي:
أولاً: إن كل ما لدينا منذ ثلاثة عقود حتى الآن هو نتيجة تبنّينا لنظرية الثورة الإسلامية على منهج الإمام الخميني الراحل التي منحتنا هوية دينية ووطنية جديدة، كما أحدثت بالنسبة إلينا منعطفاً استثنائياً في تاريخ صنع القرار الإيراني المستقل.
ثانياً: إن أهم إنجاز عملناه معاً منذ ذلك الحين حتى الآن هو قبولنا والتزامنا، ولو بالنظرية على الأقل، بالقانون والدستور مرجعاً نهائياً لاختلافاتنا، وهي المعركة التي يمتد عمرها إلى أكثر من مئة وخمسين عاماً مضت من تاريخ إيران المعاصر.
ثالثاً: إن سبب بقائنا قوة مستقلة وسرّ استمرارية نظامنا وصموده، رغم كل الشدائد والصعاب التي مرّت علينا، إنما كان ولا يزال رهن بوحدتنا الوطنية واستقلالية قراراتنا ورفضنا لكل اشكال التبعية أو النزول عند رغبة الأجنبي في نقل مصدر القرار من طهران إلى أي عاصمة أجنبية مهما كان اسمها! فماذا حصل حتى وقع مثل هذا الشقاق الذي نشهده اليوم في صفوف من كانوا يوماً أبناء البيت الواحد الذي يعمل العدو الخارجي اليوم جاهداً على تعميقه واستغلاله حتى الرمق الأخير ؟!
قبل الإجابة على هذا السؤال الكبير والمهم، لا بد من مقدمة سريعة.

من لم يقرر بعد ركوب سفينة الخمينية الجديدة، فإنه لن يبلغ الفتح المرتقب البتة
يقول الإمام الخميني الكبير إن «معيار تقويم الأفراد هو حالهم الراهنة». كما يقول المثل العربي الشهير: إن الفتى من قال ها أنذا، ليس الفتى من قال كان أبي. وهذا يعني في حالنا التي نحن فيها أن نتحاسب أولاً، وقبل كل شيء، على الموقف الذي يأخذه كل واحد منا الآن من الأحداث العامة، لا على ما كان رأيه في يوم من الأيام، وإن كل مسؤول ينبغي أن يحاسب ثانياً على أعماله هو بغض النظر عن حسبه ونسبه وولاءاته السابقة مهما كانت شامخة!
ولما كان الإمام الخميني هو معيارنا دوماً، فإنه يقول أيضاً من جملة ما يقول ما مضمونه: «إذا سمعتم الاجنبي يمدحكم فابدأوا بالشك في أنفسكم، إذ ماذا عملتم حتى صار يمدحكم؟»؛ والآن فإننا نعتقد أن ما حصل خلال السنة الماضية على خلفية ما يسمى الاختلاف في تقويم عملية انتخابات الرئاسة الإيرانية حتى اليوم إنما يثبت ما يأتي:
أولاً: إن ثمة من تساهل ـــــ في الحد الأدنى ـــــ في الدفاع عن مبدأ الثورة الإسلامية على منهج الإمام الخميني، اذا لم نقل بأنه بدأ يراجع ركنها الركين وهو ولاية الفقيه، ولو بنحو مضمر وغير معلن، ما جعله يتساهل عملياً ونظرياً مع كل من وما يعادي هذه الثورة، وهو ما فتح الباب واسعاً امام اختراقات العدو الاجنبي والمنافقين الداخليين، مهما كانت الراية التي رفعوها!
ثانياً: إن ثمة من انقلب عملياً على إنجاز ان القانون والآليات الدستورية هما المعيار والحكم في الاختلاف، رغم إجماعنا على ان اللجوء إلى القانون حتى لو كان ناقصاً أو أُسيء تطبيقه، أفضل من اللاقانون !
ثالثاً: ثمة من ترك الباب موارباً ان لم يكن مفتوحاً على مصراعيه للاجنبي ليدخل على خط الخلاف الداخلي ولو بمقدار، إما ظناً منه بأن الوقت كان مناسباً للاستقواء بمعادلة الخارج على معادلة الداخل، وإما لاعتقاده بأن الفرصة الذهبية قد توافرت له للانقضاض على خصمه الداخلي مرة وإلى الأبد! ولما كانت الاعمال بالسياسة هي بنتائجها في هذه الدنيا لا بالنيات كما هو الحساب عند الله في الآخرة، فإن من خرج على المبادئ الاساسية الثلاثة المذكورة أعلاه عليه اليوم ان يفصح لنا علناً وبصراحة لا لبس فيها، إن كان فعلاً لا يزال مقتنعاً بنظرية الإمام الخميني الثورية المعروفة بولاية الفقيه، والتي مثّلت ولا تزال عمود الخيمة في ادارة شؤون العباد والبلاد، أم لا ؟! قد يقول قائل إن من حق الانسان، أي إنسان كان، أن يقوم بمراجعة فكرية لما كان يعدّه يوماً صائباً وصحيحاً، ويخرج بنتائج مغايرة لاقتناعاته الاولية. ونحن نقول ان من حقه ذلك بلا شك ولا ريب. لكن ما هو ليس من حقه هو ان يقوم بهذه المراجعة في السر ويقوم بترديدها في الأروقة الخلفية، فيما يقول في العلن ما لا يضمره، لان ذلك سيكون من باب النفاق المدمّر له ولاهله ولعشيرته وقومه. ان أي مراجعة ولو سريعة لتصرفات وممارسات رموز ما باتوا يسمون انفسهم اليوم بمعارضي النظام من اهل الداخل تثبت لنا ما يأتي:
إن هؤلاء قد وصلوا إلى اقتناع داخلي ـــــ وان فضلوا عدم الاعلان عنها بالصراحة والشفافية الكاملة ـــــ ومفادها أن مبدأ ولاية الفقيه الذي قامت عليه ثورة الإمام الخميني ومنهجيته الاساسية لم يعد صالحاً بنظرهم لزمانهم، بل ان ثمة منهم من كان يردد في الاروقة الداخلية من دون وجل أنه اذا ما دار الامر في صراعنا مع الاجنبي بين التخلي عن ولاية الفقيه من اجل الحفاظ على الجمهورية الاسلامية، وفي مرحلة
لاحقة بين التخلي عن اسلامية النظام من اجل الحفاظ على إيران، فان علينا ان نقوم بذلك من دون تردد. بل ان بعضهم قد وصل إلى اقتناع ما هو ابعد من ذلك، ألا وهو ضرورة فصل الدين عن الدولة، كما سمعناهم يرددونها، على لسان الكثير من رموزهم، وذلك حفاظاً على إيران السلطة الشعبية والمسلمة كما يزعمون، وهو ما ترجم في وقت من الاوقات إلى شعار «إيران أولاً»، وهو ما كان يعني عملياً الحفاظ على انفسهم وبقائهم هم في السلطة بأي ثمن كان، اكثر مما يعني حتى الحفاظ على إيران نفسها. وهذا الامر في الواقع هو ما اضطرهم في وقت لاحق وعملياً إلى ما يأتي:
ـــــ أولاً: السماح لكل اشكال المعارضة الداخلية والخارجية المناهضة للنظام والثورة الخمينية بالدخول إلى حلبة اللعبة الداخلية، وذلك من باب ان الغاية تبرر الوسيلة، لان الهدف كان قد اصبح عندهم عملياً إسقاط محمود احمدي نجاد بأي ثمن كان، للولوج منه إلى إضعاف موقع الولي الفقيه، وتالياً إسقاطه، وهو ما أضفى على كل اولئك المطرودين والمناوئين على مدى العقود الثلاثة الماضية طابع «المشروعية العرفية».
ـــــ ثانياً: الافساح في المجال لقوى الخارج عملياً للدخول على خط اللعبة الداخلية وهو ما جعل زمام المبادرة تنتقل من الداخل إلى الخارج بسبب الاختلال الكبير في موازين القوى التي تجمع بين معارضة داخلية يفترض ان امكانياتها محدودة وقوى اجنبية تمتلك امكانيات لامحدودة. أمر أفرز خلطاً للاوراق بنحو يصعب على أي معارض حر شريف مهما بلغ من درجات النبوغ التحكم في مسار الاختلاف بينه وبين خصمه الداخلي بعيداً عن تأثيرات الخارج وإملاءاته.
في علم السياسة يصبح مفهوم ما قام به هؤلاء الذين أخطأوا عملياً هو انهم ليس فقط في تقدير الموقف، كما في حساب موازين القوى، بل انهم أضاعوا اتجاه البوصلة أيضاً، وهو الأمر الذي عرّض عملياً حركة السفينة المشتركة لخطر التيه والإبحار بعيداً عن طرق السلامة، وهو الامر الأخطر. ومن يخطئ في السياسة بهذا الكم الهائل يكن قد وقع في الخطيئة القاتلة، وليس الخطأ فحسب. ولذلك قال عنهم المشرّعون والمتشرّعون إنهم فقدوا البصيرة رغم ملكة البصر. فهل ينتبه كبارهم إلى ما جروا البلاد اليه، بسبب هذه الخطيئة القاتلة، قبل فوات الأوان؟!
أعرف ان ذلك صعب قبوله من قبل البعض منهم، ولكن اليس الدين والوطن والمصلحة العامة أغلى من كل شيء. أغلى حتى من الحزب والقبيلة والعشيرة والاهل، فضلاً عن الكينونة الشخصية، فما بالك بما يسمّونها «الديموقراطية» والتعددية الحزبية على الطراز الغربي، واللتين ينتظرون إنزالهما بالباراشوت على إيران، ويريدون توظيفهما كما يروّج لهم بعض الجهلة من اشباه النخب في الخصومات الداخلية، وصدّقها أو افتعل تصديقها بعض من ضعاف النفوس ممن عملوا مستشارين غير أوفياء عند بعض تلك الرموز «لغاية في نفس يعقوب». وهو ما انطلى، للأسف الشديد، على بعض من رفاق الأمس من الكبار، رغم التحذيرات الصريحة التي قدمت إليهم في حينها، سواء من أصدقائهم المقرّبين أو من المرشد الأعلى، والتي لم تدخل إلى أعماقهم أبداً للأسف الشديد.
في الختام، يحار المرء وهو يتابع سلوك هذا البعض من الساسة والمسؤولين السابقين الكبار، كيف أنه رغم تلك الفرص العديدة التي أتيحت له خلال السنة الماضية للعودة بسياق الامور إلى بيت الوطن الداخلي الواحد، إلى جانب الفرص العديدة التي قدمها له رفيق دربه وقائد مسيرته المنتخب الإمام المجدد آية الله السيد علي خامنئي للخروج من مأزق التورط في وحول مستنقع الاجنبي، ورغم انقطاع جمهور واسع من مناصريه عنه ورفضه الاستمرار في السير ورائه، فانه لا يزال مصراً على البقاء في خانة ما يسمونه المعارضة.
وأيّ معارضة هذه بعدما اصبحت تحت انتداب الدول الكبرى الطاغية، وبعد علمه الاكيد بانه لم يبق في رصيده سوى حفنة من الذين باعوا ضمائرهم للشيطان الاكبر وحلفائه الصغار، وقوة أجنبية يأفل نجمها يوماً بعد يوم رغم صوتها المرتفع ضد إيران الثورة والنظام والوطن العزيز.
وهذا الامر بدوره يدفعنا إلى مزيد من الشك والتردّد إن كان هؤلاء المتمسّكون بالإصلاح والتغيير، إنما لا يزالون عند دعاويهم بالإصلاح فعلاً، أم انهم باتوا مجرد رهينة لا يمكن لها التحرر بسهولة من شرنقة العدو الخارجي، بعدما غرقت في أوحال مستنقعه الأسود.
نعم قد يكون وحده الإقرار بالخطأ الفادح الذي ارتكبوه خلال العام المنصرم، والعودة إلى عرين الولاية الدافئ والمشفق والحكيم، وأحضان أمتهم التي لا يمكن ان تجتمع على خطأ،
هما الطريق والملاذ الوحيد الباقي أمام هؤلاء بعد أن هجرهم حتى أقرب الناس اليهم. لكن الوقت مع ذلك يمضي والقافلة تمضي، ولن يفسد سخط الخاصة من «شورى أشباه النخب» رضى العامة من الناس الذين هم في ازدياد. ومن لم ينتبه حتى الآن إلى ما حصل، ولم يقرر بعد ركوب سفينة الخمينية الجديدة، فإنه لن يبلغ الفتح المرتقب البتة، مهما يكن تاريخه مجيداً في الماضي القريب أو البعيد، لأنه عند ذلك وعند حلول لحظة الخلاص الكبرى، وحين تحين ساعة صعود السفينة الناجية، سيكون عملاً غير صالح ـــــ كما جاء في التعبير القرآني الكريم عن ابن سيدنا نوح عليه السلام ـــــ حتى لو كان إلى الأمس القريب أو البعيد ابناً معروفاً للنظام وداعياً من دعاته وعموداً من أعمدته.
* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي ـــــ الإيراني