ياسين تملالي*نشرت جريدةُ «المصري اليوم» بين 10 و17 يونيو 2010 عرضاً طويلاً لما أسمته «أشهرَ رسالة دكتوراه عن بني إسرائيل»، كشف فيها محمد سيد طنطاوي، حسب قولها، «جذورَ العنف في التاريخ اليهودي». وكما خمن ذلك بالتأكيد بعضُ القراء، يتعلق الأمر بـ«بحث» أنجزَه شيخُ الأزهر الر احلُ سنة 1969 بعنوان «بنو إسرائيل في الكتاب والسنة»، وأصدرته حديثاً دارُ الشروق المصرية.
ولا ندري ما دفع كاتبَ العرض، أحمد رجب، إلى اعتبار هذا النسيج من الأقوال غير المحققة والتأويلات المتجنية على الأحداث التاريخية «أشهرَ رسالة دكتوراه» في موضوعها. ويزيد وصفَه هذا غرابةً أن صاحبَ الرسالة نفسَه لم يكن يلح كثيراً على وجودها بعدما أصبحت مهمتُه البرهنةَ على تسامح الإسلام، لا بالمشاركة في مؤتمرات «حوار الأديان» فحسب بل أيضاً بمصافحة شيمون بيريز (الحاضر دائماً فيها وكأنه حاخام جليلٌ لا رئيسُ دولة إسرائيل).
ويعبر الشيخُ الراحل (في رسالته) وصحافيُ «المصري اليوم» (في تلخيصه لها) عن عدائهما لا للدولة الصهيونية ككيان سياسي لكن لليهود كيهود منذ أن وجدوا على وجه الأرض، لا فرقَ بين ضحايا المحرقة وجلادي الشعب الفلسطيني إسحاق شامير وأرييل شارون، بين حلفاء الإمبريالية من أمثال تيودور هرتزل وخصومها من أمثال نعوم تشومسكي، بين الساعين إلى طرد الفلسطينيين مما بقي لهم من أراض كأفيغدور ليبرمان والمدافعين عن حقوقهم التاريخية على كل بلادهم من أمثال ميشال فارشافكي، الذي دفع وغيرَه ثمنَ دعوتهم إلى «تدمير الدولة الصهيونية» سنوات طويلةً من السجن.
وتتضح غايةُ الكتاب «العلمية» في مقدمته التي نقرأ فيها: «كان مقصدي الأول أن أكشفَ للشباب المسلم، بصفة خاصة، وللعقلاء والمنصفين، بصفة عامة، عن أحوال بني إسرائيل وتاريخهم وأخلاقهم وأكاذيبهم وقبائحهم». تكفي هذه السطورُ لتنزعَ صفةَ العمل الجاد عن هذه «الدكتوراه» وتكشفَ أنها محضُ استيراد لميراث اللاسامية الأوروبية الذي لم تكن مجتمعاتُ المشرق والمغرب تعرفُه قبل القرن العشرين.
وبطبيعة الحال، إذا فكرنا بمنطق المؤلف اللاتاريخي، فلن يكونَ سببُ مناوأة أحبار اليهود للدولة الإسلامية الوليدة خوفَهم من اختلال ميزان الأحلاف القبلية في الجزيرة العربية لغير مصلحتهم، بل «طبيعتُهم» المجبولة بـ«الإمعان في التمرد، والغدر والإساءة». وبالمنطق نفسه، لن ننظرَ إلى استعمار فلسطين كحدث سياسي كان لانتشار اللاسامية في أوروبا أثر بالغ فيه بقدر ما سننظر إليه كآخر تجل شبه خرافي لشخصية جماعية عابرة للزمان والمكان هي «بنو إسرائيل» (لا داعي هنا للتذكير بأن هذا التصور «المؤامراتي» للعالم يهون من مسؤولية القوى العظمى في نكبة 1948 وما تلاها من نكبات).
هذا عن «دسائس بني إسرائيل»، أما ما قاسوه من قتل ونفي فليس فظائعَ بيّنةً على رأي الشيخ (وملخص رسالته في «المصري اليوم») بل عقوبةً ربانية لهم. يقول: «وفي عهد الملك فرديناند وزوجته إيزابيلا وصلت موجة السخط على اليهود أقصاها، لتغلغلهم في الحياة الإسبانية، واستيلائهم على اقتصادها وإشعالهم نار الخلافات الدينية بين الطوائف، فرأى الملكُ وزوجتُه أن خيرَ وسيلة لوقاية البلاد من شرورهم هي طردُهم من إسبانيا طرداً نهائياً». هل نُسيَ أن مصيرَ المسلمين بعد سقوط غرناطة كان الطرد والتشريد نفسيهما، وأنهم أبحروا في السفن نفسها مع «بني إسرائيل» هاربين من بطش الملوك الكاثوليك؟
وكما يبرر اضطهادَ محاكم التفتيش لليهود، يعتبرُ شيخُ الأزهر السابق المحرقةَ النازية جزاءً وفاقاً لهم، فهي، يقول، «آخرُ ما لاقوه من عذاب وتقتيل» منذ أن «دخلوا ألمانيا في القرن الثامن الميلادي (...) واستغلوا الشعبَ الألماني أسوأ استغلال، حتى كادوا يستولون على أمواله عن طريق الربا الفاحش واستخدام الوسائل المختلفة لجمع المال الحرام».
ولم يقلل من اقتناع سيد طنطاوي بما كتَبه في «رسالته» (ومن تأمين محرر «المصري اليوم» عليه) أن ضحايا النازية لم يكونوا من اليهود فقط (استغلالُ المحرقة من جانب الدعاية الصهيونية كاد أن يطوي صفحةَ قضاء النازيين على مئات الآلاف من الغجر وإعدامَهم عشرات الآلاف من المعاقين ذهنياً)، ولا حتى احتمال أن العرب، لو كانوا أكثر عدداً في أوروبا آنذاك، لكانوا أولَ رواد المحتشدات وأول ضحايا أفران الغاز بوصفهم جنساً سامياً متخلّفاً حسب النظرية العرقية الهتلرية.
ما الهدفُ من إصدار «بنو إسرائيل في الكتاب والسنة» ونشر ملخصات طويلة له في جرائدَ كـ«المصري اليوم»؟ يبدو أن الهدفَ منهما، بالإضافة إلى المكسب المادي طبعاً، هو إعادةُ الاعتبار لكاتبه الذي لم يمنعه مقتُه الشديد لليهود من اتخاذ مواقف مهادنة للكيان الإسرائيلي.
وتبدو محاولةُ إعادة الاعتبار هذه خرقاءَ إلى أقصى حد لأسباب عديدة. الأولُ أنه لم يُعرف عن الراحل منذ أن تولى مشيخةَ الأزهر افتخارُه بهذا الكتاب الذي خطه أكثر أربعين سنة قبل وفاته، والثاني أن تبيانَ عمق كراهيته لليهود لن ينسي منتقديه بسهولة مساهمتَه الرمزيةَ في التطبيع مع الدولة الصهيونية، والثالثُ والأهمُ، أن كثيراً من اليهود يقدمون للفلسطينيين من الدعم ما لا يقدمه لهم بعض العرب الممتنين لهتلر على محاولته تخليصَ العالم من «بني إسرائيل».

يعبر الطنطاوي عن عدائه لا للدولة الصهيونية ككيان سياسي لكن لليهود كيهود
لنتساءل عمن ساند حقاً الفلسطينيين: سيد طنطاوي أم اليهوديةُ جيزيل حليمي، محامية مروان البرغوثي، بعدما كانت محاميةَ مناضلات الاستقلال الجزائريات في الخمسينيات؟ الذين أفتوا بجواز بناء حائط يفصل مصرَ عن غزة أم أعضاءُ «تحالف اليهود من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط» الذي سيرسلُ سفناً لكسر الحصار المضروب على الغزاويين؟ الذين يبررون المحرقةَ النازية أم ستيفان هيسيل، الناجي من هذه المحرقة، الذي يقود حملةً عالمية لمقاطعة إسرائيل؟ من ساند حقاً الفلسطينيين؟ رواة تاريخ «بني إسرائيل» المتخيَل أم المؤرخُ الإسرائيلي أيلان بابي الذي قوضت أبحاثه عن النكبة صرحَ أسطورة «العودة إلى أرض الميعاد»؟
كان أجدرَ بسيد طنطاوي، بدلَ الحديث عن مآسي اليهود (التي لا ذنب فيها للفلسطينيين) كعقوبة لهم على «جرائمهم» أن يمتنعَ عن مصافحة مجرم حقيقي هو شيمون بيريز. وكانَ أجدر بصحافي «المصري اليوم»، أحمد رجب، بدلَ التصديق على كلامه، أن يتساءلَ: كيف حجبت «شرور بني إسرائيل» عن حكمة الراحل كل شرور إسرائيل؟
* صحافي جزائري