قد تكون الانتهازية الأخلاقية (وكذا السياسية) وصفاً ملائماً لحالة كهذه، لكنها حتماً لا توفي المقاربة الليبرالية حقّها من التقويم. فالمقاومة السلمية كما عبّرت عنها سفن كسر الحصار ليست تماماً هي «المقاومة» التي نظّر لها «الليبرالون» العرب. وإدراجها من جانبهم في هذا الإطار الملتبس ضرب من ضروب العبث. ذلك أن أساطيل كسر الحصار لا تضع شروطاً مسبقة على تحركها كما يفعل ليبراليونا. فعندما يقدم المرء على مواجهة دولة مارقة وهمجية كإسرائيل، وإن سلمياً، فلا بد من أن يضع في حسبانه كل الاحتمالات الممكنة، بما فيها إمكان التعرّض للموت. هنا تفترق السردية «الليبرالية السلطوية» عن نظيرتها المناوئة للسلطة. فالليبراليون الأحرار (وكذا اليساريون والإسلاميون) الموجودون على متن السفن الذاهبة إلى غزة، لا يقيمون تعارضاً مبتذلاً بين فعلي الموت والحياة. هم حتماً لا ينشدون الموت ولا يجعلون منه وجهة حصرية لهم أثناء رحلاتهم المتكرّرة إلى غزة، لكنهم في الوقت ذاته يعرفون أن اعتراضهم على همجية إسرائيل له ثمن. وهذا الثمن قد يكون حياتهم ذاتها كما حصل مع راشيل كوري من قبل والمتضامنين الأتراك على متن سفينة «مرمرة» من بعد. وهذه حقيقة يعجز البعض عن فهمها حتى الآن، ويدارون عجزهم بالقول: إن النضال ممكن ولكن «من دون تضحيات كبيرة»! وطبعاً لا تعوزهم الأمثلة على هذه الإمكانية، إلا أن أمثلتهم (وهي نبيلة حقاً) باتت عقيمة لفرط تكرارها وانتزاعها من سياقها التاريخي: ألمهاتما غاندي ومقاومته السلمية للاحتلال البريطاني، الانتفاضة الفلسطينية الأولى وصورة الحجر في مواجهة الدبابة. لكن ماذا عن الجزائر وفييتنام وفرنسا والكونغو و..الخ؟ حتى «ثورة الأرز» التي يفاخرون بها لم تكن لتحصد هذا الرصيد الرمزي دون تضحيات. المشكلة إذاً ليست في التضحية بل في وجهتها. والانعطافة التي أصابت هذه الوجهة في الحقبة الكولونيالية الأخيرة بحاجة إلى مزيد من الوقت حتى تتعطّّل بالكامل. وعطالتها المؤقتة اليوم لا تعني أن الوجهة إلى غزة وفلسطين قد حسمت تماماً. فالعقبات دون ذلك كثيرة ومنها مثلا (كما أسلفنا) عقبة وضع «المقاومة السلمية» في وجه نظيرتها العسكرية. مواجهة باتت متعذرة بعد الدماء التي سفحت على متن أسطول الحرية. دماء أظهرت أن كسر عنجهية إسرائيل أمر ليس بالمستحيل. يكفي أن تظهر لجنودها أنك لا تهابهم حتى «تنهار» (ولو رمزياً) الدروع العسكرية التي يقبعون فيها. هذه ليست أوهاماً ولا هي خطبة من خطب أحمد سعيد البائسة، بل هي تفصيل بسيط من جملة تفاصيل ومشاهدات كشفت عنها روايات المتضامنين العرب والأجانب على متن أسطول الحرية. مشاهدات أتاحت لنا فرصة لمعاينة الفارق بين نهجين ورؤيتين. نهج يؤمن أصحابه بالمقاومة السلمية سبيلاً لملاقاة المقاومة العسكرية، ومؤازرتها في فرض أمر واقع على إسرائيل، وإجبارها تالياً على التراجع مرّة تلو المرّة. ونهج آخر لا يرى بديلاً من نظرية التفاوض لأجل التفاوض. وحين تحرجه مبادرات سلمية تفضح صورة إسرائيل في العالم يهرب إلى الأمام كالعادة، ولا يعدم الوسيلة لتجويف هذه المبادرات وحرفها عن وجهتها. فالمقاومة السلمية لا تعود كذلك إذا لم تستحوذ على ثمارها سلطة أوسلو. وهذا تحديداً ما يزعج فريق أوسلو في الحراك التضامني بين قبرص وغزة. إذ إن ما يحصل الآن يعطّل الأجندة التي لا تريد لحماس الظهور بغير المظهر «الإسلاموي الظلامي». والائتلاف الدولي المتعدّد المشارب المتضامن مع غزة ينفي المظهر المذكور، ويعيد «الألق» إلى صورة الحركة الإسلامية، بوصفها سلطة منتخبة حوصرت ظلماً، وتواطأ على حصارها العالم كلّه. بهذا المعنى يمكن فهم التسريبات الصحافية (عبر هآرتس) التي أفادت بطلب محمود عباس من أوباما في لقائهما الأخير في واشنطن عدم رفع الحصار عن غزة، حتى لا يقوّي ذلك حركة حماس. ورغم نفي السلطة لاحقاً هذا الأمر، إلا أنه يبقى وارداً، نظراً لحجم المأزق الذي تقبع فيه سلطة عباس.
وكما تداري السلطة الفلسطينية مآزقها بالنفي المتكرّر، كذلك تفعل اليوم جماعتها بين ظهرانينا. فمن أنكر على حزب الله وحماس في حربي تموز وغزة حقّهما في مواجهة عدواني إسرائيل، لا يملك اليوم أن يفعل الأمر ذاته. والهشاشة التي انطوت عليها حجج هؤلاء آنذاك باتت مضاعفة. والفضل في مضاعفتها يعود إلى المقاومة بجناحيها العسكري والمدني.
المقاومة السلمية لا تعود كذلك إذا لم تستحوذ على ثمارها سلطة أوسلو!
وهذا الواقع الجديد ندين به إلى الطابع التعدّدي الذي فضح دعاية إسرائيل وأضفى على مبادرات كسر الحصار طابعاً إنسانوياً. إنسانوية لا تفرّق بين مقاومة عسكرية وأخرى سلمية. فكلتاهما أعادتا تظهير معاناة الشعب الفلسطيني، بوصفه (بعد شعب جنوب أفريقيا) آخر شعب خاضع لاحتلال كولونيالي في العالم.
* صحافي جزائري