سعد الله مزرعاني *يتحرّك المشهد اللبناني في عملية فرز تبرز عليها بصمات متغيّرات المنطقة بتزايد واضح. بعض «الأصيلين» في بناء «الصيغة اللبنانية» وفي المحافظة عليها، يستشعرون قلقًا متزايدًا. يتولّى الآن البطريرك نصر الله بطرس صفير التعبير المباشر عن هواجس ومواقف طالما ثابر عليها سابقًا، وإن بكلام أقل حدّة وأقلّ مباشرة. ينشط الدكتور سمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» في هذا الاتجاه أيضًا. إنّه يجد فيه أيضًا «فرصة» لبناء موقع سياسي مسيحي ــــ ماروني راسخ، معزّز ببنية ميليشياوية توفّر بدورها عناصر قوة وحركة في توازنات المشهد السياسي ــــ الطائفي ــــ المذهبي اللبناني سواء بين المسيحيين أنفسهم أو بينهم وبين الآخرين من التشكيلات الأخرى.
في بعض أبلغ، بل أطرف، مظاهر المتغيّرات والتحوّلات، أن يطلق نائب طرابلس محمد كبارة انتقادات واضحة وجادّة لزيارتي كلّ من البطريرك الماروني وسمير جعجع إلى العاصمة الفرنسية وعواصم عربية وأوروبية أخرى. لاحظ النائب كبارة، عن حق، أنّ ما يأخذه البطريرك صفير و«الحكيم» جعجع على الآخرين، في ما يتعلق بالعلاقة مع سوريا، يمارسانه مماثلةً في العلاقة مع دول عربية وأوروبية متعدّدة.
وينتهي النائب كبارة إلى مطالبة الجميع بعدم إقحام الدول الخارجية في الشؤون الداخلية اللبنانية، وخصوصًا من قبيل الاستقواء بهذه الدول في الصراعات القائمة بين الأفرقاء اللبنانيين.
لم يكن لكبارة أن يقول هذا الكلام قبل سنة أو أكثر. لا بل إنّه كان أحد أكثر الذين انخرطوا عميقًا في عملية الانقسام والاستقطاب التي شهدتها البلاد في السنوات الممتدة ما بين أوائل عام 2005 إلى أواسط عام 2008. يشير التحوّل الذي طرأ على موقف نائب طرابلس وعضو كتلة «المستقبل» إلى ما ذكرناه من أثر التحوّلات الإقليمية والمحلية. ويشير موقف البطريرك صفير وجعجع إلى ما ذكرناه من محاولة منع هذه التحوّلات عبر تصعيد الموقف واللهجة إزاء سوريا و«حزب الله». والمقصود بمنع التحوّلات هو السعي، بواسطة تصعيد اللهجة الطائفية والتفتيش عن عوامل دعم خارجية، لعدم إحداث خلل جوهري في توازنات الوضع اللبناني. وكالعادة يحتلّ الصراع مع رئيس «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون، موقعًا أساسيًا في خطة صفير ــــ جعجع. فإظهار العماد عون خارجًا على تقاليد المسيحيين ومصالحهم في لبنان، هو عنوان رئيس في حملة التحريض عليه. أما الحديث عما يعانيه الجنرال عون من ضعف، فمن أجل إظهار جدوى الحملة عليه من جهة، وضرورة تصعيدها بغية عزله وبغية توحيد الموقف السياسي للمسيحيين بالضدّ من مواقفه وتحالفاته، من جهة ثانية.
إظهار العماد عون خارجًا على تقاليد المسيحيين ومصالحهم في لبنان، هو عنوان رئيس في حملة التحريض عليه
المنطق الذي يوجّه تحرك فريق البطريرك صفير وجعجع وسواهما، مستند كما كان الأمر في السابق، إلى «ضمانات» داخلية وأخرى خارجية. الضمانة الداخلية تتجسّد في التمسّك بالنظام الطائفي اللبناني ورفض كلّ تغيّر فيه، أو حتى، في آليات عمله. ويشمل الرفض خصوصًا تطبيق البنود الإصلاحية الدستورية التي أُقرّت في «الطائف» ودخلت في صلب الدستور اللبناني. أما «الضمانات» الخارجية، فمجدّدًا، يجري التفتيش عنها، في مصر، وفي فرنسا وفي الولايات المتحدة وغيرها!
هذا المنطق قام ويقوم على تمجيد الصيغة الطائفية اللبنانية، وعلى الارتباط بالغرب. وهو اقترن دائمًا، بالدعوة إلى «حياد» لبنان، وإلى ضرورة ابتعاده عن المحاور الإقليمية وإلى إبقائه ضعيفًا لأنّ في ذلك سرّ قوّته... وهو يتجدّد اليوم، وليس بالصدفة، مع محاولة بعث نشاط جديد للولايات المتحدة الأميركية ولبعض دول محور «الاعتدال» العربي، بالتناغم دائمًا مع الموقف الإسرائيلي. ويقول الكثير في هذا الصدد تقرير السفيرين جيفري فيلتمان وريان كروكر، الذي نشرته أخيرًا الزميلة «السفير» والذي قُدّم أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في الثامن من شهر حزيران الجاري.
يوفّر تقرير فيلتمان خصوصًا، أساسًا صلبًا لفهم بعض التحرّكات والزيارات والمواقف التي أشرنا إليها (والتي كان قد تناغم معها، إلى قدر كبير، بعض كلام البابا في زيارته الأخيرة إلى قبرص). وقبلاً، تجدر الملاحظة بأنّ السفير فيلتمان الذي انتقل بسهولة وسلاسة من دور إلى دور ومن عهد إلى عهد، يمثّل ظاهرة لافتة في الخارجية الأميركية. فصعود الرجل مستمر والملفات التي يتابعها مهمة ومعقّدة ومتعدّدة. وهو كسياسي يُحسد على صراحته وكدبلوماسي يُلام على وقاحته. ومن خلال مساهماته يصرّ على ممارسة أقصى الوضوح والشمولية، إلى «المونة» على الأصدقاء وعلى التابعين دون حرج شخصي، رغم ما يسبّبه للآخرين من إحراج.
إنّ فيلتمان (وزميله) الذي أكد في تقرير سابق أمام اللجنة نفسها قبل بضعة أشهر أنّ الإدارة الأميركية قد عزلت نفسها عوضًا عن عزل دمشق وسواها، يضع اليوم «مصالح الولايات المتحدة ولبنان وشركائنا في المنطقة وعلى رأسهم إسرائيل» في جهة واحدة! يدرك السفير فيلتمان ما طرأ من تحوّلات على السلطة والحكومة في لبنان. لكنّه يصرّ على وضع لبنان في الخانة الأميركية والإسرائيلية. هذا هدف، بالتأكيد، أكثر مما هو حقيقة راهنة. لكنّ متابعة الحملة في لبنان وفي خارج لبنان، من جانب البطريرك صفير وجعجع، يضع هذه الحملة في سياق «الجهود الأميركية المستمرة لمواجهة تهديدات حزب الله». هل هذا الكلام حساب على النوايا؟ لا، إنّه إحلال للأفعال وللأقوال في موقعها الطبيعي والواقعي والحقيقي. وإذ يمتلك فيلتمان، هنا، «رواية» متكاملة للأحداث وللحروب وللوقائع وللمواقف، ويستحق لقب المعبِّر الأوضح والأصرح والأوقح عن السياسات الأميركية في المنطقة، يكتفي حلفاؤه اللبنانيون، مَن صَمَتَ منهم ومن نطق، ببعض المواقف التي يسمح بالإدلاء بها واقع الحال والتوازنات والاعتبارات المتنوّعة.
في تناول هذا الموضوع، لا بدّ، أوّلاً، من ملاحظة خطأ المنطلق في التحليل وفي الاستنتاجات وفي العلاقات. والمنطلق الخاطئ هو ذلك الذي يقوم على التمييز بين اللبنانيين، وبينهم وبين العرب في القضايا المصيرية، بعدما قام على مبدأ الامتيازات الذي عبثًا يجري التمسّك بقشورها وشكلياتها في المناصفة والحياد والضعف...
إنّ الضمانة الحقيقية للبنان وللبنانيين هي في وحدتهم وفي توحّدهم حول الأساسيات وعلى أساس المساواة في ما بينهم في مناخ من الحرية والديموقراطية واحترام الحقوق الفردية والعامة. وتكمل هذه الضمانة الداخلية، ضمانة خارجية تتمثّل في الانخراط السليم في القضايا العربية من بوابة مصالح الشعوب العربية لا من بوابة الغزاة والمستعمرين والصهاينة... ولقد بات للشعب اللبناني رصيد من الاحترام ومن القوة ومن المهابة في مقاومة العدو لا يفرّط به إلا خائن أو مخطئ!
بعيدًا عن هاتين الضمانتين، عبثًا يبحث البطريرك أو «الحكيم» أو سواهما، عن ضمانات أخرى، محلية أو خارجية. هذا ما تقوله التجربة، وهذا ما يقوله «العقل» الذي أشاد البطريرك صفير، في زيارته الأخيرة إلى مدينة زحلة، بنتائج اعتماده في علاقات أبنائها مع الجوار!
* كاتب وسياسي لبناني