أنطوان فليفل *يتميّز فكر بولس الخوري (1921ــــ...) باستعراض مباشر وعميق وصريح لمفهوم العلمانيّة بحيّزاته الفلسفيّة والتاريخيّة والسياسيّة. ففيما سعى الكثير من المسيحيين العرب العلمانيين إلى تلطيف منحى العلمانيّة المناهض للدين أو إلى عدم التعمّق به، استرسل بولس الخوري بوصف العلمانيّة كفكر تكوّن أساساً للتخلّص من سطوة الدين ووجوده. ولكنّ الفيلسوف الخوري لم يتوقّف على هذا المستوى التاريخي من الوصف، بل تفكّر في تطوّر المفهوم واعتداله وعلاقته بالثقافة والأنظومة الدينّية والإيمان، مما سنح له التكلّم عن شكل من العلمانيّة يتكامل مع الدين ويسير معه مسيرة تطوّر المجتمع الإنساني.
يذكّر الخوري بأنّ الفكر العلماني نشأ في أوروبا «كثورة على هيمنة الدين وتسلّط رجال الدين واضطهادهم لأصحاب الفكر وإذلالهم للناس باسم الدين». ولعب التقدم العلمي دوراً هاماً في بروز المفهوم الذي مرّ تطوّره بمراحل عدّة: النهضة، الأنسيّة (humanisme)، الإصلاح الديني، عصر التنوير، الثورات السياسية ومنها الفرنسية والبولشفية، والثورات الصناعية والثقافية والعلمية. امتدّت هذه المراحل على أربعة قرون تكوّن فيها الفكر العلماني ومبادئه، وأخطرها بالنسبة للأنظومة الدينيّة التقليدية «أن العقل البشري سيّد نفسه، وأن الخبرة الحسيّة أساس المعرفة». أدّى ذلك الاعتقاد إلى تطبيق مبدأ النسبيّة واعتماد الذهنية الناقدة ورفض الماورائيّات. ولد بين هذا الفكر العلماني والدين حالة توتّر كبيرة. فالعلمانيّة تتعارض مع الفكر الديني الأسطوري والقدسي وتسعى إلى إحلال كل ما هو عقلي ودنيوي ومدني. ولكنّ تطوّر الفكر العلماني أدّى إلى التكلّم أقلّه عن نوعين من العلمانيّة: علمانيّة متطرّفة وعلمانيّة معتدلة.
العلمانيّة المتطرّفة مبنية على نظرة علمية صرف للعالم، وهي لادينية وملحدة، ومن ممثّليها فويرباخ وماركس وفرويد. أمّا العلمانية المعتدلة، فهي تؤمن بالتكامل بين العلم والدين، بحيث إنّ حقل الدين هو المعنى، أما حقل العلم فهو الظاهرات وقوانينها. وفيما تنظر العلمانية المتطرفة إلى العبادات الدينية والقواعد الأخلاقية كأشكال خداع، تعتبرها العلمانية المعتدلة كقدرة على التنشئة الإنسانية الشخصية. وفيما تنقض العلمانية المتطرّفة المجتمع الديني، تعتبر العلمانية المعتدلة المجتمع واحداً تتوافر فيه مقومات تفعيل الإيمان في مؤسسات كالكنيسة. تنقض العلمانية المتطرّفة تدخّل رجال الدين في الشؤون الزمنية، أمّا العلمانية المعتدلة، فتحدّ من هذا التدخل وتدرجه في إطار قوانين مدنية تتيح لأي كان التعبير عن آرائه شرط عدم المس بأمن المجتمع، وهذا بحسب الخوري هو الفصل بين الدين والدولة.
إذا كانت العلمانيّة المتطرّفة لا تتلاقى البتّة مع الأنظومة الدينيّة المسيحية، فاللقاء ممكن بين العلمانيّة المعتدلة وهذه الأنظومة انطلاقاً من مفهوم التجسّد: «فاللّه يصبح معنى للإنسان، والإنسان يصبح الوجود الواقعي للّه». مسألة اللّه لا تعود مسألة وظيفية تعتبر أن الله يدير العالم، ممّا يبرّر الخلط بين الدينيّات والسياسيّات، ولكنها تصبح مسألة كيانيّة بحيث يعطي اللّه للعالم معناه. فالعلمانيّة المعتدلة تؤمن بأنّ الإنسان قادر على أن يدير شؤونه من دون وصاية دينيّة أو إلهية، ولكن هذه العلمانيّة عاجزة عن إعطاء المعنى لأنّ ذلك يتخطّى حقل صلاحيّتها، وهنا دور الدين.
العلمانيّة المعتدلة تؤمن بأنّ الإنسان قادر على أن يدير شؤونه، ولكنها عاجزة عن إعطاء المعنى، وهنا دور الدين
قبلت المسيحية الغربية بهذه العلمانيّة بعد صراع مرير أدّى إلى فصل الدين عن الدولة على أساس التمييز بين الروحي والزمني. وتمّ الإذعان باستقلال الفلسفة والعلوم عن الدين الذي بلغت به الأمور إلى الاستفادة من معطيات الفلسفة والعلم وتطبيقها على العلوم الدينية. صُدّرت العلمانيّة إلى الشرق وانقسمت آراء المسيحيين العرب بين مؤيّد ومعارض. وعلى الرغم من أنّ بعضاً منهم نحا منحى المسيحيّة الغربية بقبولها، صعب على الكثير من المسيحيين المشرقيين تقبّل فكرة العلمانية. الأسباب التي حالت دون ذلك هي أساساً معطيات ثقافيّة كالطائفية والفكر الديني الحاضر في كل شرايين الحياة الاجتماعية والتقاليد والتديّن والتعلّق بالماضي وبحرفيّة النصوص المقدسّة واعتبارها منزلة، إلخ.
يمكن أن يكون للمسيحيّة المشرقية موقف إيجابي من العلمانيّة لأنّ للمسيحيّة قدرات كبيرة للتغيير وللاستفادة من بعض مكتسبات الحداثة كالتعدّدية التي هي قبول للآخر وكالعقليّة الناقضة التي هي نادرة في العالم العربي ومفيدة له، وكالعلمانيّة المعتدلة التي هي فرصة للدين بحيث تدعوه «إلى التحرر وإعادة تفعيل وظيفة الإيمان فيه وفي المجتمع الإنساني». أمّا سبل التلاقي بين العلمانيّة والأنظومة الدينيّة فهي كثيرة، تمرّ بعدّة وسطاء كالرمز والفعالية والمحبّة وقدسية الإنسان. يتشاطر الدين والعلمانية كل ذلك، ولكن لكل منهما تعبيره الخاص الذي يتلاءم مع جوهر بحثه. إلا أنّ التلاقي الفعلي لا يحصل إلا عندما يُميَّز بين الأنظومة الدينية التي هي «تعبير ثقافي عن الإيمان»، والإيمان الذي هو «قصد المطلق وطلب المعنى»، وهذا أمر موجود عند كل إنسان. جرى التعبير عن الإيمان بواسطة أنظومة دينية تتناول إمكانات الثقافة التعبيرية وتتجسّد بها، لكي لا يبقى حيّاً فقط في القلوب. فالإيمان إذاً مقياس الأنظومة الدينية، يحاسبها إن لم تعبّر عنه بالشكل المناسب. وعليه، فللإيمان دور ناقد يقرّبه من العقلانية العلمانيّة التي هي ناقدة بذاتها.
المجتمع العلماني أمر حتمي بالنسبة لبولس الخوري. لذلك فهو يعتبر أنّ علينا، «مسلمين ومسيحيين في هذا الشرق، أن نبتكر معاً مجتمعاً مشرقياً حديثاً علمانياً، قام على ما يجمع ولا يفرّق، عنيت الإنسانيّة». هذا المجتمع العلماني الإنساني بحاجة إلى من يكون ضميره، وهنا يكمن دور الإيمان الذي يضطلع بالدفاع عن القيم الإنسانية والذي يساهم مع العلمانيّة بتأسيس مجتمع إنساني صحيح مبني على الديموقراطية.
ملاحظة: لمزيد من الاطّلاع على فكر بولس الخوري، يمكن مراجعة الكتاب الصادر حديثاً عن منشورات الجامعة الأنطونيّة: «بولس الخوري، فيلسوف اللاكمال».
(الحلقة المقبلة والأخيرة: العلمانيّة الآتية؟)
* دكتور في الفلسفة