هل من الممكن أنّ السيدة ميركل وضعت الحضارات في مواجهة بعضها البعض في مواجهة فريدة مباشرة وبغير خطوط تماس. وهل انتقال هذه الأعداد الكبيرة من عالم إلى عالم مختلف تماماً هو عملية تجريبية فذة في علم الاجتماع؟ وماذا سينتج من هذا التجربة الجريئة؟ليس من السهل التنبؤ بخطورة التجربة الألمانية المفروضة على أوروبا، ولا بالبؤر التي ستكون أشدّ اشتعالاً على مساحة القارة العجوز.

وجّه ديفيد تشارتر في مقالة نشرتها «تايمز» اللندنية اللوم إلى ميركل، واتهمها بالتفاؤل الساذج من دون أن تعي أن الترحيب بهذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين يعني أن ألمانيا تتجه نحو أعوام طويلة مقبلة من الاضطرابات الاجتماعية وأنّ 800 ألف لاجئ سوف يغيرون ألمانيا نفسها باعتراف ميركل ذاتها: «إنهم قد يغيرون بلدنا في الأعوام المقبلة ونريد لهذا التغيير أن يكون إيجابياً».
الإيجابية التي تراها ميركل في الإنتاجية المتوقعة للأيدي العاملة الشابة، والتي تناولها نائبها بالحديث عن حاجة ألمانيا لتجديد الطاقات فيها مع تقدم أعمار الألمان، تصطدم برؤية المحافظين الذين أبدوا مخاوفهم على لسان هانز بيتر فريدريش، وهو عضو بارز من المحافظين في بافاريا، حذر من أنه من المستحيل معرفة عدد الاسلاميين المتشددين الذين وصلوا ألمانيا مع تدفق اللاجئين الأسبوع الماضي، بخاصة مع التخلي عن كل الاجراءات والتدقيقات المعمول بها نظراً إلى ضخامة الأعداد. في المقابل يبدو الشارع الألماني وللمفارقة بغالبيته هو الأقل عنصرية تجاه موجة اللجوء إذا ما قورنت الإحصائيات المتعلقة بالموضوع مع إحصائيات جرت في عدد من البلدان الأوروبية المرشحة لاستضافة «الغرباء».

هذا الارتحال المليوني سيفرض تحولات
راديكالية على المجتمعات المستضيفة

واستناداً إلى آخر إحصائيات معهد «بيو» الأميركي المتخصص، فإنّ الألمان والإنكليز هم في آخر لائحة العنصريين تجاه «المسلم» المختلف، بينما تتربع في صدارة الشعور العنصري إيطاليا تليها بولندا. ولعلّ المسيرات الكبيرة المؤيدة لاستضافة اللاجئين التي شهدتها مدن أوروبية عديدة بالإضافة إلى استراليا في نهاية الأسبوع في مواجهة أعداد قليلة مناهضة تركزّت في تشيكيا وبولندا يدلل على انقلاب في المزاج العام الغربي. حتى أنّه يبدو انعطافة كبرى قد تؤسس لنهاية النيوليبرالية، فبعد النجاح الباهر لحزب سيريزا اليوناني، جاء فوز اليساري الراديكالي جيرمي كورين برئاسة حزب العمال البريطاني في عقر دار النيوليبرالية.
وبغضّ النظر عن المأساة الإنسانية التي تواكب التحولات الكبرى في حركة التاريخ، فإنّ هذا الارتحال المليوني لمدن أو أوطان «بكاملها» إلى حيث «الخبز والأمان»، سيفرض تحولات راديكالية على المجتمعات المستضيفة، وسيعيد طرح السؤال عن مدى جديّة الترابط، ما بين النيوليبرالية «التاتشرية» وما بين تصاعد المذهبيات والتطرف الديني وانتشار حركات الإسلام السياسي على تنوّعها. ما سيفرض مراجعة جذرية لوعي الجمهور الغربي لطبيعة الصراع، ويعيده إلى نقطة الصفر، وهي مسؤولية النظام البنكي الغربي عن تراكم هذه الكميات من الجهل والتجهيل والفقر على الضفة المقابلة للمتوسط، والتي لن تكون المدن الأوروبية بأي حال بمنأى عنها. فالأشلاء الإنسانية التي تفترش اليوم أرصفة ومحطات مترو عواصم الغرب ليست إلّا «براغي» مستقبلية في مفاصل وعجلات الماكينات الصناعية الغربية، في استعادة شديدة الصلافة لمراحل من الاستغلال الطبقي المجحف. فميركل الحنونة هي ذاتها التي جعلت من ملايين الألمان يعيشون على حافة «الميني شوب» بدخل شهري لا يتجاوز 400 يورو شهرياً، وهي التي جوّعت الشعب اليوناني واشترته، والتي شرحت بإسهاب منذ أشهر لطفلة فلسطينية الأسباب التي تمنعها من قبول لجوئها. هي ميركل التي ترتدي اليوم قناع التعاطف والإنسانية.
إنّه الصراع الطبقي في أبهى حلله، فلا يعني رأس المال استيعاب المهاجرين الجدد بقدر ما يعنيه استخدامهم في الصراع الطبقي الداخلي كورقة ضاغطة على «المقيمين» الأصليين لسلبهم حقوقهم المكتسبة في جولة من تنافس الأيدي العاملة الرخيصة على الخبز اليومي. إنّها اللعبة القديمة الجديدة في إرساء أسس تناقضات عرقية ودينية لحرف البوصلة عن الطبيعة الحقيقية لمجرى الصراع في أوج أزمة الرأسمالية الغربية.
كتب فرانس فانون في ما مضى «دعك من اوروبا فهي تحاضر في الإنسان بينما هي تقتله في كل مرة تلقاه». هي في الحقيقة داعشية مختلفة. «داعش» تحاضر في الدين والعفة، لكنّها تسعى جاهدة لامتلاك ما في الأرض من ثروات في ليبيا ونيجيريا والشرق الأوسط، ولا تخفي طموحاتها التكنولوجية. إنّها بالفعل نقيض أوروبا، لكنّها ليست نقيضاً يسعى إلى إيجاد بديل منها، بل إلى الحلول مكانها وبالنمط الرأسمالي ذاته. ولأنّ الوافدين الجدد جُلّ ما يعنيهم هو تغيير حياتهم نحو الأفضل، فإنهم لن يطلبوا أكثر من أن يكونوا وقوداً لعجلة دورة اقتصادية شرهة تتطلب المزيد والمزيد من الأجساد البشرية.
ما يعنيه الأمر برمته، هو حتمية الاندفاع يساراً، وعلى مستويات كونية. فالرؤية شديدة الوضوح لا حاجة معها لمعاجم في علم الطبقات أو لاستعارة دفاتر لينين الفلسفية في تعقيدات إحالة الماركسية على معادلات رياضية. كلّ ما يلزم هو الأخذ بتصريح البابا فرنسيس الأخير: «إنّه نظام اجتماعي اقتصادي شرير وغير عادل، غير عادل لأنه عندما أيضاً يتعلق الأمر بالقضايا البيئية والسياسية، لم يعد البشر في المركز. النظام الاقتصادي المهيمن يضع إله المال في المركز، المال هو المعبود المفضل».
* كاتب لبناني