منذ أسبوعين، أقامت الصين أكبر عرضٍ عسكريّ لها منذ عقود، بمناسبة الذكرى الـ 70 لاستسلام اليابان، في ساحة «تيانانمين» المركزية؛ حيث مرّت صفوف الجنود الصينيين أمام المدينة المحرمة، وتحت أعين أركان الحزب الشيوعي المجتمعين على المنصة.تمّ تحضير المدينة لفترة معتبرة قبل العرض (بدأ التدريب عليه منذ الربيع). وكي يحصل الإعلام على صورٍ واضحة، مع خلفية سماء زرقاء في احدى أكثر مدن العالم تلوثاً، تم اجلاء الكثير من سكان العاصمة، وأوقفت العديد من المصانع عن العمل قبل أيام، لينخفض معدل التلوث في بيجينغ الى أقل من نصف مستواه الاعتيادي.

العرض العسكري تجلى في صورٍ مثيرة للإعجاب، مع آلاف من الجنود يسيرون بتنظيم فائق، ومدرعات صينية تبدو، بفضل «التمويه الرقمي» وألوانها الزاهية، كاللعب. ولكن، بعيداً عن الابهار البصري، كانت هناك أكثر من رسالة متضمنّة في استعراض «جيش التحرير الشعبي»، ولمتلقين مختلفين.
بالنسبة الى الأوساط الغربية، فإن نجم العرض بلا منازع كان «جيش المدفعية الثاني» (الفيلق الصيني الموكل بالصواريخ الاستراتيجية) و، تحديداً، صاروخ DF21-D، «قاتل الحاملات». منذ بدأت الأخبار تتوالى عن صاروخٍ صيني، بالستي ولكنه مصمم لضرب السفن الكبيرة في المحيط، والأميركيون يتابعون الموضوع باهتمام. الصاروخ هو جزء من العقيدة الصينية التي طوّرت منذ أواخر التسعينيات، وتعتمد مبدأ «فانجييرو» (حرفياً «منع التدخّل» أو «منع الاختراق») الذي لا يهدف لهزيمة اميركا في حربٍ شاملة ــــ فهذا غير ممكن ــــ بل لتطوير قدراتٍ تبقي الأميركيين على مسافة كافية من البرّ الصيني ــــ خاصة وأنّ أميركا، كما لاحظ تقريرٌ أخير لمعهد «راند»، لا تملك قواعد جوية تحيط بالصين، خارج مدى الصواريخ القصيرة، ويمكن استخدامها في حالة الحرب، على عكس الوضع مع ايران؛ ما يعني أن ابعاد الأسطول الأميركي عن المياه الاقليمية يصعّب الى حد بعيد أي تدخل عسكري في البلد.
المهم هنا ليس الصاروخ نفسه، وهو يملك رأساً حربياً «مناوراً»، أي انّه، حين يخترق الغلاف الجوي متسارعاً صوب الهدف، فهو يستعمل نفاثات صغيرة لتحريك وتوجيه نفسه، وأخذ مسارات عشوائية لا يمكن لرادارات الاعتراض التنبؤ بها. المهم هو أن الكشف عن الصاروخ (وقد عرضته بيجينغ بأعدادٍ كبيرة، لدحض من يقول انه اختباري ولم يدخل في الخدمة) يدلّل على أن البنية التقنية التي تحيط به وتسمح بتشغيله قد بدأت بالاكتمال.
لا يكفي أن تصنع صاروخاً يقدر على الوصول الى الحاملة في عرض المحيط، ولو زوّدته بأجهزة تصويب تتيح التعرف على حاملة الطائرات وتوجيه الصاروخ بدقة اليها (يُعتقد انه رادارٌ صغير، موجود في الرأس الحربي، وهو يمسح سطح الماء بحثاً عن نتؤات تولّدها السفن ويقارنها مع «خلفيات» مخزنة في ذاكرته، للتعرف على السفينة\الهدف). عليك أولاً أن تتمكن من معرفة مكان الحاملة، وهي في عرض المحيط؛ وهذا على صعوبته لا يكفي، اذ عليك أن تتبّعها باستمرار مع تحديث موقعها، فالحاملة تتحرك دوماً ــــ وبسرعة عالية ــــ ما يعني أنها ستكون على بعد أميالٍ عن مكانها الأصلي بين انطلاق الصاروخ وبلوغه الهدف. هذا كله يستلزم «بنية تحتية» كبيرة ومكلفة، من أقمار صناعية لرصد المحيطات، وأخرى متخصصة بالتنصت على الاشارات الالكترونية التي تبثها السفن المقاتلة، ونظام قيادة وسيطرة لتنسيق كل هذه الأجزاء. بيجينغ لا تعلن عن حيازتها الصاروخ فحسب، بل انها صارت تملك، في الفضاء، عدسات تراقب وتسجّل وتوجّه.
الرسالة الثانية تتعلّق بالأولويات داخل الجيش الصيني، اذ، بالتوازي مع عرض الصواريخ والطائرات الحديثة، أعلن الرئيس الصيني خلال العرض العسكري عن خفض عديد القوة البرية بثلاثمئة ألف جندي، ضمن خطة التحديث واعادة الهيكلة. حتى أواخر السبعينيات، كان «جيش التحرير»، كما صممه ماو، يرتكز أساساً على القوة البرية، وعلى تكتيك «الحرب الشعبية»، ما جعل جنرالات جيش البر الأقوى سياسياً ولهم نصيب الأسد من الموازنة. مع عمليات التحديث المتكررة في العقود الأخيرة، بدأت الأولوية بالانحياز صوب البحرية وسلاح الجو (دعامتا عقيدة «فانجييرو»)، اللذين صارا أكثر القطاعات تقدماً في الجيش الصيني وفيها تصبّ الاستثمارات المالية والتكنولوجية. طبيعة العرض العسكري، والاعلان عن تقليص العديد، كانا اشارة واضحة الى الابتعاد عن مركزية سلاح البرّ.
ثالثاً، كانت هناك رسالة داخلية لا تقلّ أهمية، موجهة الى الجمهور المحلي والى أركان الجيش. الرئيس الصيني، شي جينبينغ، ظهر في العرض بعد حملة «تطهير» واسعة بدعوى محاربة الفساد، بدّلت الكثير من قيادات الجيش. تقول مجلة «ذا ديبلومات» إنّ أرفع قائدين في القوات المسلحة، اضافة الى أكثر من خمسين جنرالاً، أقيلوا من مناصبهم وأحيلوا الى المحاكمة في السنتين الماضيتين. فكان العرض العسكري مسرحاً يُظهر فيه الرئيس وحدة «جيش التحرير الشعبي» خلفه بقياداته الجديدة: شاركت وحداتٌ من كل قطاعات الجيش في العرض، كما أصرت السلطات على أن يسير 58 جنرالاً بين جنودهم، في دلالة رمزية على الطاعة والالتزام بهيكل القيادة.
حتى التسعينيات، كانت تقارير المخابرات الأميركية تشير الى أن الجيش الصيني مترهلٌ ومتقادم، ولا يشكل خطراً في أي مواجهة. بل إن دراسة سرية من السبعينيات تتنبأ بأن الاتحاد السوفياتي قادرٌ على احتلال شمال الصين، ودخول بيجينغ نفسها في حال استقدم تعزيزات. أما اليوم، فقد تلاشت التقارير التي تحذّر من القوة الروسية، وصار همّ المخططين الأميركيين يتركز على رسم سيناريوهات في بحر الصين الجنوبي، تزداد تشاؤماً مع مرور السنين، وتخيّل سبل لمواجهة الصين وصواريخها.