ياسين تملالي *في 20 نيسان/ أبريل 2010، في الذكرى االثلاثين لانتفاضة «الربيع الأمازيغي» (1) أعلن التنظيم المسمى «حركة الاستقلال الذاتي للمنطقة القبائلية» (2)، عن قرب تكوين «حكومة قبائلية مؤقتة» في المهجر، ما كان تلميحاً إلى أن هذه المنطقة «أراض محتلة». فالحكومة المؤقتة الوحيدة في التاريخ الجزائري هي تلك التي ألّفتها جبهة التحرير الوطني في مصر في أيلول/ سبتمبر 1958. وفي ما يشبه إعلان قيام دولة ذات سيادة، ألقى رئيس التنظيم، فرحات مهني، المغني الملتزم سابقاً والمهووس «بقبائليته» لاحقاً، خطاباً بشر فيه «شعبه» بأنّ أوان الحرية قد آن، وردّد على مسامع مريديه ما كتبه في «الجزائر: القضية القبائلية» (3) أن الأمة الجزائرية «لباس غريب» فرض على القبائليين فرضاً، متجاهلاً أنّ هؤلاء منحوا ثورة التحرير كثيراً من أبرز قادتها وعشرات الآلاف من شهدائها، ومنهم والده.
وقوبل إعلان هذه «الحكومة المؤقتة» في فرنسا باستنكار كثير من الجمعيات الأمازيغية. فحركة فرحات مهني لم تتورع عن الزعم بأن الآلاف الذين خرجوا إلى شوارع باريس يوم 20 نيسان/ أبريل الماضي لم يتظاهروا تذكيراً بالقمع الذي ووجهت به احتجاجات «الربيع الأمازيغي»، بل للمطالبة بالحكم الذاتي. كذلك الأمر في الجزائر. كريم طابو، السكرتير الأول لجبهة القوى الاشتراكية (التي يتزعمها أحد قادة ثورة التحرير، حسين أيت أحمد، وتعد من أكثر الأحزاب انغراساً في المنطقة القبائلية)، ذكر بأنّ «لا جزائر من غير القبائليين ولا قبائليين من غير الجزائر» (يومية «الوطن»، 25 نيسان/ أبريل 2010). أما سعيد سعدي، رئيس التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية (التنظيم الثاني الأكثر حضوراً في المنطقة)، فلم يعلّق على آخر ابتكارات زميله الأسبق في الحزب، لكنه قبل إعلان «حكومة المنفى» بأيام، في محاضرة ألقاها بجامعة بجاية، لخص رأيه في مواقفه بهذه الكلمات: «إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فمآل مشروعه تفتيت الجزائر ودفعها نحو طريق انتحاري مسدود».
ولنفهم مغزى تأليف هذه «الحكومة»، لا بد من التعريف بحركة الاستقلال الذاتي وعرض تصورها «للأمة القبائلية» المزعومة. ما يجب تجنبه في هذا الصدد هو اتهامها بأنها مجرد صنيعة الاستخبارات الغربية. من المحتمل أن هذه الاستخبارات تكاد تطير من الفرحة وهي تُمنح هذا المنفذ لتتدخل عند الحاجة في الشؤون الجزائرية، إلا أن تنظيم فرحات مهني لم يولد من رحمها، فهو أساساً تطور شوفيني انعزالي «للحركة الثقافية الأمازيغية»، التي وحدت بعد ربيع 1980 كلّ الداعين إلى الاعتراف بالهوية الأمازيغية، مؤكدة دوماً انتماءها إلى الأمة الجزائرية رداً على دعاية السلطة المغرضة التي كانت تتصفها بـ«الانفصالية».
وبرزت حركة الاستقلال الذاتي على الساحة السياسية أول مرة في آب/ أغسطس 2001، خلال الاضطرابات التي عرفتها المنطقة القبائلية إثر مقتل طالب على يد دركي (نيسان/ أبريل 2001) وأسفرت عن مقتل 127 شاباً. وكان بروزها إعلان حرب على الحزبين اللذين درج القول إنهما يمثّلان سياسياً هذه المنطقة: جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، وكلاهما يعتبر الثقافة الأمازيغية «ثقافة كل الجزائريين» لا الناطقين بالأمازيغية فحسب.
هذا عن بروز الحركة أول مرة على الساحة السياسية، أما ميلادها الرمزي فكان في 1998، في بيان وقّع عليه، بالإضافة إلى فرحات مهني، الباحث الألسني سالم شاكر. وقد طالب الموقعون بمنح المنطقة القبائلية استقلالية واسعة، يقتصر دور الدولة المركزية بموجبها على السياسة الخارجية والدفاع والمالية. صحيح أن مطلباً كهذا كان قد طُرح في صفوف الحركة الثقافية الأمازيغية لكنه كان مطلب أقليات سرية زادها عزلةً الانفتاحُ السياسي النسبي، الذي مكن دعاة الأمازيغية، ابتداءً من أواخر الثمانينيات، من خوض معترك النشاط العلني. وكان البيان ضربة قاسية للإجماع الوطني على «وحدة البلاد» أعادت إلى الأذهان مساعي الاستعمار الفرنسي الرامية إلى عزل المنطقة القبائلية عن باقي البلاد. من جهة أخرى، كان هذا النص قطيعة مع ميراث الحركة الثقافية الأمازيغية التي لم تناضل يوماً لنيل «الحقوق الثقافية واللغوية القبائلية» ولكن من أجل حقوق مجمل الأمازيغ في الجزائر، بل في الشمال الأفريقي كله.
وتبدو المطالبة بالحكم الذاتي للمنطقة القبائلية نتيجة إخفاقين اثنين. أولهما إخفاق الحركة الثقافية الأمازيغية في الانغراس في جهات أمازيغية أخرى (4)، ما عمق طابعها القبائلي، وثانيهما إخفاق الدولة، بعد قرابة خمسين سنة من الاستقلال، في أن تمثل كل مكوّنات الشعب الجزائري، فتعليم الأمازيغية ما زال يراوح مكانه منذ أن شُرع فيه سنة 1995، والاعتراف بها في الدستور لغةً وطنية (2002) لم يُتبع بأي مسعى جدي لتوسيع نطاق استخدامها الرسمي في المناطق التي تتحدثها.
وتستوحي مقترحاتُ فرحات مهني في «الجزائر : القضية القبائلية» (المجلس التشريعي الإقليمي، نظام تعليمي لغة التدريس فيه هي القبائلية، إلخ) تجاربَ حكم ذاتي معاصرةً كالتجربتين الكاتالونية في إسبانيا والكيبيكية في كندا. ويتميز الكتاب بمقاربة غريبة لتاريخ الجزائر تصور القبائليين كضحايا أزليين. ويمكن تلخيص هذه المقاربة كما يأتي: «بذلنا ما يكفي من التضحيات لأجل البلاد (حرب التحرير، الحركة الديموقراطية بعد الاستقلال...) وحقوق الأمازيغ، لكن تضحياتنا راحت سدى، فها نحن وحدنا في مواجهة السلطة نطالب بالديموقراطية والعلمانية، ووحدنا نعمل على حماية لغتنا الأمازيغية من الاندثار. علينا إذاً من الآن فصاعداً ألا نفكر في غير أنفسنا، ولا حتى في غيرنا من الأمازيغ الجزائريين».
المغني الملتزم سابقاً ردّد على مسامع مريديه أن الأمة الجزائرية «لباس غريب» فرض على القبائليين فرضاً
ويُسهب الكتاب في ذكر «خصوصيات» المنطقة القبائلية لتبرير الحكم الذاتي: لغتها القبائلية ووجود «نظام ديموقراطي تقليدي» فيها هو «نظام الجمهورية القروية» فضلاً عن محافظتها، عبر التاريخ، على «استقلالها» عن مختلف الدول التي سادت الشمال الأفريقي: روما وبيزنطة ومختلف الممالك الإسلامية، المشرقية منها (الأموية والعباسية والفاطمية والعثمانية) والمغربية (المرابطون والموحدون). وإذا أمعنّا النظر في هذه «الخصوصيات»، وجدناها نسبية جداً. فاستمرار استخدام القبائلية لم يمنع هذه المنطقة من أن تظل طوال قرون حصناً من حصون التعليم التقليدي الذي كانت لغته العربية، لدرجة أن القبائلية استعارت منها ثلث ألفاظها، كما يشير إلى ذلك أحد مؤسسي حركة الاستقلال الذاتي، سالم شاكر نفسه، في كتابه «الألسنية الأمازيغية».
هل يمكن اعتبار «مجالس الجماعة» التي سيّرت القرى القبائلية طوال قرون، ولا تزال تسيّر بعضها جزئياً، «نظاماً ديموقراطياً» بالمعنى المعاصر للكلمة؟ لا، طبعاً لأن عضويتها (كما هي حال كثير من المجالس القروية في العالم) مقصورة على أرباب الأسر الذكور، كما أنها تُعنى بشؤون مجتمعات تعرف فوارق طبقية حقيقية، وإن كانت أقل عمقاً من تلك الموجودة في مناطق أكثر غنى وأقل وعورة. ويعترف فرحات مهني في كتابه بوجود هذه الفوارق بين القبائليين «من أصول مرابطية» (5) وغيرهم من ذوي «الأصول الشعبية».
من الصعب إثبات أطروحة استقلال المنطقة القبائلية قبل الاستعمار الفرنسي (1830)، بل إن التاريخ يكذبها. ألم ينشئ أسلاف القبائليين الجيوشَ الفاطمية التي غزت مصر بقيادة جوهر الصقلي في 969 وجزءاً من الجيوش التي كان العثمانيون يجندونها لقمع رافضي دفع الخراج، من العرب والأمازيغ سواء؟ ألم يكونوا قبل احتلال فرنسا الجزائر دائمي الانقسام بين موال للحكومات المركزية التي تعاقبت على البلاد ومناوئ صريح لها؟ صحيح أن ممالك قبائلية صغيرة نشأت خلال الاحتلال العثماني، لكنها لم تتمكن يوماً من توحيد ما يتناسب والمنطقة القبائلية بحدودها الحالية.
ليست الحقيقة إذاً ما يقول فرحات مهني في كتابه من أن الاستعمار ألحق القبائليين عنوة بالأمة الجزائرية. الحقيقة أن السلطة الاستعمارية هي التي رسمت لمنطقتهم حدودها الإدارية الحاضرة، ولا أدل على ذلك أن كلمة «القبائل» لا تزال تطلق على سكان مناطق جبلية في الشرق الجزائري تعربت لغة منذ عقود طويلة (جيجل والقل وسكيكدة). وحتى إذا فرضنا جدلاً أن استقلال القبائليين قبل الاحتلال الفرنسي حقيقة تاريخية، فإن حرب التحرير صبغت بلون الدم انتماءهم إلى الوطن الجزائري، فكم من محارب قبائلي استشهد في مناطق تتكلم العربية، أو لهجات أمازيغية أخرى، وكم من محارب عربي اللسان استشهد في جبال جرجرة والبيبان والبابور؟
ورغم عقدها مؤتمرها التأسيسي (آب/ أغسطس 2007) في إيغيل علي (ولاية بجاية)، تبدو حركة فرحات مهني ضعيفة الحضور في المنطقة القبائلية التي لا تزال نخبها السياسية (المنقسمة بين جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية، وبدرجة أقل، التنظيمين اليساريين، حزب العمال الاشتراكي وحزب العمال) تنظر إليها بعين الريبة، آخذة عليها رغبتها في «حل مشاكل القبائليين من باريس ومونريال».
وتكفي نظرةٌ عابرة إلى موقع هذه الحركة لندرك أن معظم نشاطاتها يجري في الخارج، في فرنسا وكندا على وجه الخصوص. حتى في المهجر، لا يبدو أن كل النشطاء القبائليين يشاطرونها مطالبها. والدليل على ذلك أن عشرات الجمعيات النشطة في فرنسا استنكرت ادعاءَ فرحات مهني أن تظاهرات 20 نيسان/ أبريل الماضي طالبت بالحكم الذاتي، وأدانت سعيَه إلى إيهام الرأي العام بأن هذا المطلب جماهيري لا مطالب حفنة من المهاجرين، يشعرون بالفخر إذا استقبلهم أصغر موظف في «الكي دورسي» ليحدثوه بمنتهى الجدية عن «تاريخ العلاقات الفرنسية القبائلية» (6).
وتشارك كثيرٌ من النخب السياسية القبائلية رجالَ الأعمال القبائليين (الذين كوّنوا ثرواتهم خارج المنطقة) واليدَ العاملة القبائلية (التي تعد الهجرة الداخلية مصدر دخلها الرئيسي) رفضَ الانعزال الإقليمي في إطار الحكم الذاتي. ويفسر هذا التعلقَ بالانتماء الجزائري، فضلاً عن العامل الوجداني، كون الانغلاق في قوقعة قبائلية ضيقة يحرم هذه النخب من فرص تسلق السلّم السياسي (عضوية القيادات الحزبية المركزية والبرلمان، إلخ).
ويزيد من ضعف انغراس حركة الاستقلال الذاتي في الجزائر عدمُ تردد رئيسها في دعوة الاتحاد الأوروبي وأميركا والناتو (7) إلى التدخل لـ«حماية القبائليين»، مصوراً القمع الذي تعرضت له تظاهرات «الربيع الأسود» في 2001 كـ«تصفية عرقية» ممنهجة. من الصعب إقناع الشباب القبائليين، وهم يرون ما تمخض عن «التدخل الإنساني» في العراق من مآس، بأن الناتو «مخلّصهم» وأنهم بحاجة إلى مظلته ومظلييه لنيل حقوقهم المشروعة. أما جيل حرب التحرير، فلا يزال يذكر بالتأكيد دعم هذا الحلف لجيش الاحتلال الفرنسي في حربه القذرة ضد الثوار الجزائريين.
* صحافي جزائري

هوامش
11ـ اندلعت تظاهرات الربيع الأمازيغي في 20 نيسان/ أبريل 1980، إثر منع محاضرة للكاتب مولود معمري، وشملت ولايتي تيزي أوزو وبجاية في المنطقة القبائلية، بالإضافة إلى بعض جامعات الجزائر العاصمة.
2 ـ لا تزال المنطقة القبائلية تتكلم لغة الجزائر «التاريخية»، الأمازيغية، وفيها حركة شعبية تطالب بترقية هذه اللغة نشأت داخل الحركة الاستقلالية (حزب الشعب الجزائري) في الأربعينيات. وتقع هذه المنطقة شرق الجزائر العاصمة وتشمل ولايتي بجاية وتيزي أوزو وأجزاءً من ولايتي سطيف والبويرة. كلمة «قبائلي» مشتقة من «قبائل» (وهو الاسم الذي كان الأتراك يطلقونه على مناطق جبلية في الشرق الجزائري)، لكن هذا الاسم لا يعني أن التنظيم الاجتماعي في المنطقة تنظيم «قبلي».
3 ـ صدر كتاب «الجزائر: القضية القبائلية» في فرنسا (بالفرنسية) في 2004 عن دار نشر ميشالون.
4 ـ يمثّل الأمازيغ حوالى 20% من مجموع 36 مليون جزائري (مقابل 40% من سكان المغرب) حسب تقديرات الباحثين، ويسكنون مناطق أخرى غير المنطقة القبائلية: جبال الأوراس (الشرق) ووادي ميزاب وجبال الهقار والتاسيلي (الجنوب) وجبال شنوة (غرب العاصمة)، الخ.
5 ـ «المرابطون» في المجتمع القبائلي «عائلات شريفة»، كثيراً ما كانت تحتكر معرفة اللغة العربية والقرآن، ويقال إنها وفدت إلى المنطقة من جنوب المغرب، وهي ربما تحمل هذا الاسم إشارة إلى الدولة المرابطية (في القرنين الحادي عشر والثاني عشر) التي كانت عاصمتها مراكش.
6 ـ في 23 آذار/ مارس، أي قرابة شهر قبل إعلان «الحكومة القبائلية المؤقتة»، استقبلت الخارجية الفرنسية وفداً برئاسة فرحات مهني تناولت معه «تاريخ العلاقات بين فرنسا والمنطقة القبائلية».
7 ـ في 2002، أرسل فرحات مهني إلى السكريتر العام للناتو رسالة يقول فيها إنه «واثق من يقظة الحلف لمنع ارتكاب مجازر جديدة ضد القبائليين، ضحايا الإرهاب الإسلامي والعنف الحكومي».