Strong>مصطفى بسيوني * أوروبا التي كانت قد نسيت الانتفاضات الشعبية منذ عقود عادت لتقلق مرة أخرى من مشاهد الاشتباكات في الشوارع. مشاهد الصدمات بين المتظاهرين وقوات الأمن في أثينا أفزعت قادة أوروبا، حتى توسلت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى البرلمان ليوافق على المساعدات التي تزمع منحها لليونان. أكبر خطة إنقاذ مالي تعتمدها أوروبا في تاريخ الأزمات الاقتصادية بقيمة 110 مليارات يورو ليست لإنقاذ اليونان بل لتفادي سلسلة من الأزمات والانتفاضات في البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وباقي دول الاتحاد الأوروبي.
ولكن خطة الإنقاذ لم تكن مجّانية بل جاءت مشروطة بخطة تقشّف تهدف إلى سد عجز الموازنة اليونانية عبر إجراءات قاسية، تضيف أعباءً ثقيلة على العمال والموظفين، منها خفض بدلات ومنح لتوفير 2.5 مليار دولار، وإلغاء التقاعد المبكر بامتيازات، ورفع سن التقاعد وتجميد 600 مليون دولار كانت تدفع كمعاشات خاصة. ووضع ضريبة 2% على الوقود، و10% ضريبة على التبغ والكحول، ودمج بعض شركات القطاع العام وخصخصة بعضها.
إجراءات التقشف تلك التي ستفتح الطريق لمساعدات تقدّر بـ110 مليارات يورو، عدّها العمال والموظفون إعلاناً للحرب من جانب الحكومة، وردّوا بالمثل. ففور إعلان خطة التقشف دعت النقابات العمالية وأحزاب المعارضة اليسارية في اليونان إلى الإضراب والتظاهر. الدعوة التي لبّاها أكثر من ثلاثة ملايين عامل في اليونان، ومئات الآلاف الذين انضموا إلى التظاهرات، تطوّرت سريعاً إلى صدامات مع الأمن، واقتحام بنوك وحرق أبنية وسقوط قتلى جرّاء الصدامات. لا شك أن الإجراءات التي اتبعتها الحكومة اليونانية كانت قاسية وقادرة على تفجير هذا الكمّ من الغضب الشعبي في شوارع أثينا، للدرجة التي أفزعت قادة أوروبا، وجعلتهم يتخوّفون من زحف هذا الغضب إلى باقي القارة.
انخفض عدد العاملين في قطاع الأعمال العام في مصر من أكثر من مليون عامل إلى حوالى ربع مليون
ولكن مقارنة السياسات المطبّقة في اليونان بالسياسات التي طُبّقت وتطبق في مصر لسنوات طويلة، وبآثارها، تجعل أسئلة تحوم حول الوضع في مصر، وكيف أنّ إجراءات أشد قسوةً من تلك التي طبقت في اليونان لم تؤدِّ إلى النتيجة نفسها. إن سياسة الخصخصة التي تنوي الحكومة اليونانية المضيّ فيها طبقت في مصر منذ التسعينات وجرت خلالها تصفية شركات القطاع العام، حتى انخفض عدد العاملين في قطاع الأعمال العام من أكثر من مليون عامل إلى حوالى ربع مليون عامل حالياً، مع شبهات فساد لم تفارق صفقات البيع وصلت إلى حد بيع بعض المؤسسات بأقل من قيمة الأرض المنشأة عليها. ورغم أن معدلات الإنفاق على الصحة والتعليم لم يجرِ التعرض لها في الخطة التقشّفية اليونانية، فقد شهدت تلك المؤشرات تراجعاً ملحوظاً في مصر من عام لآخر. وبحسب التقرير المصري للاستثمار الصادر عن هيئة أمناء الاستثمار، فإن الاستثمارات العامة في مجال الصحة قد انخفضت بنسبة 35% في العام المالي 2006 ـــــ 2007، وفي نفس العام انخفضت الاستثمارات العامة في التعليم بنسبة 13%. أما الكهرباء، فقد كان الانخفاض فيها بنسبة 20% ، فضلاً عن أنها منخفضة عموماً بالنسبة إلى نفس المؤشرات في اليونان. فنسبة الإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية قياساً لإجمالي الدخل القومي في اليونان هي 9.6%، وفي مصر 6.3%، ونسبة مساهمة القطاع العام في الرعاية الصحيّة في اليونان تبلغ 60.3%، أما في مصر فهي 38.1%. هذا الفارق الكبير في الإنفاق العام على الخدمات هو ما يجعل نصيب الفرد من الرعاية الصحية في مصر 101 دولار سنوياً، بينما في اليونان 2679 دولاراً سنوياً. أما مستويات المعيشة والأجور والمعاشات، فلا وجه للمقارنة بين مستويات الأجور في اليونان ومثيلاتها في مصر، فمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي في اليونان 28400 دولار سنوياً، وفي مصر 1800 دولار سنوياً. والحد الأدنى للأجور في اليونان 9361 دولاراً سنوياً، أي أكثر من عشرين ضعفاً للحد الأدنى للأجور في مصر، الذي لا يتجاوز 442 دولاراً سنوياً. كل هذا في ظل نسبة تضخم تصل في مصر إلى 18.1%، بينما في اليونان 4.2%. كما أن بعض المؤشرات الإنسانية تظهر مدى التأثر بهذا التباين. فمثلاً توقع الحياة عند الميلاد في اليونان 80 سنة، وفي مصر70 سنة. ومعدّل الإلمام بالقراءة والكتابة في اليونان 99%، وفي مصر 66%.
قد تكون السياسات الاقتصادية المطبّقة في مصر، التي وصلت بنسبة الفقر إلى أكثر من 40% أسوأ من تلك المطبّقة في اليونان، كما توضح البيانات الواردة في تقارير البنك الدولي، ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لرئاسة الوزراء بمصر. ولكنْ هناك فارق هامّ جعل رد الفعل مختلفاً على تلك السياسات، وهو المتمثّل في وجود نقابات عمالية حقيقيّة تحظى بصدقية وشعبية واسعة، وتتصدى للسياسات التي تضر بمصالح عمالها، بينما النقابات العمالية في مصر لا تقوم سوى بتأييد سياسات الحكومة وتهدئة العمال. والمفارقة التي جرت في احتفال عيد العمال هذا العام بتأجيل اتحاد العمال احتفاله بأول أيار/ مايو لحين تمكّن رئيس الجمهورية من حضور الاحتفال في الخامس من أيار/ مايو، وتصريحه بأنه سيلغي الاحتفال ما لم يحضره الرئيس، دالّة على مدى التصاق التنظيم النقابي بالسلطة. ولمَ لا، إذا كان جميع أعضاء مجلس إدارة اتحاد العمال البالغ عددهم 23 عضواً أعضاءً في الحزب الوطني الحاكم، ما عدا واحداً فقط على سبيل الاستثناء. إنه الحزب نفسه الذي يطبّق السياسات التي تعصف بمصالح العمال والفقراء. كذلك فإن جميع رؤساء النقابات العامة الثلاثة والعشرين، ما عدا اثنين، أعضاء في الحزب الحاكم نفسه، فضلاً عن كون 17 من أعضاء مجلس إدارة الاتحاد و18 من رؤساء النقابات العامة أيضاً فوق سن التقاعد، ويستمرون في التنظيم النقابي بواسطة عقود عمل صوَرية، أو مد سنوات الخدمة استثنائياً للحفاظ على المناصب النقابية. هذا هو التنظيم النقابي الذي تصدّى طوال الوقت لاحتجاجات العمال وإضراباتهم وحاول منعها. أضف إلى ذلك وجود أحزاب سياسية حقيقية في الشارع اليوناني مقابل أحزاب في مصر أسّستها الدولة في عصر السادات لضرورات الصراع على السلطة، وأشرفت عليها منذ ذلك الحين، ولا تقوم بالفعل سوى بالصفقات مع الحكومة في مصر.
لم يتردّد العمال والفقراء في مصر في خوض المعارك والنضال ضد سياسات الإفقار، فلا يمرّ يوم واحد دون إضراب أو احتجاج. وبحسب إحصاء لاتحاد العمال الصناعيّين في الولايات المتحدة، تجاوز عدد العمال الذين أضربوا عن العمل في مصر في الفترة من 2004 حتى 2009، أي خلال خمس سنوات، مليوني عامل في شتى القطاعات والمحافظات في مصر. ومنذ مطلع شباط/ فبراير الماضي وحتى الآن، لم يخلُ الرصيف المقابل للبرلمان ومجلس الوزراء من عمال معتصمين يطالبون بحقوقهم. ناضل العمال في مصر على مدى السنوات المنصرمة ولا يزالون بكل بسالة في ظل قانون الطوارئ، وحصار قوات الأمن والملاحقة الأمنية والتعسف والاضطهاد في العمل، الذي وصل إلى حد الاعتقال وفصل النقابيين المنحازين للعمال. ولكن ما من منظمات نقابية أو سياسية تصل إلى مستوى هذا النضال، إما بسبب عدم توافر القدرة والإمكانات لاستيعاب حركة بذلك الحجم، أو بسبب عدم توافر الرغبة والإرادة الكافية للتعامل مع حركة الغضب الشعبي والاجتماعي.
هكذا كان هناك تقشف في أثينا، وآخر أسوأ في القاهرة. وكان هناك غضب في أثينا وآخر في القاهرة، لكن، لأن في أثينا نقابات وأحزاباً، كانت هناك انتفاضة واحدة في أثينا.
* صحافي مصري