ألبير داغر*نشرت جريدة «الأخبار» بتاريخ 21 أيار 2010 ملخصاً عن ورقة الدكتور شربل نحاس، وزير الاتصالات، حول موازنة 2010. وذكرت الصحف أنّ مجلس الوزراء سيعكف على دراسة مشروع الموازنة أياماً عدّة متتالية. هنا بضع ملاحظات عن ورقة الدكتور نحاس:


في تشخيص المشكلة والحلول المقترحة
أ. استعاد الدكتور نحاس في تشخيصه للوضع الراهن مقاربة سبق له أن اعتمدها لقراءة تجربة التسعينيات، يلعب فيها قياس مؤشر سعر الصرف الفعلي الحقيقي للعملة الوطنية (REER) دور الحجر الأساس. وهو مؤشر يقيس تطوّر تنافسية الاقتصاد، أي اقتصاد، ويقيس بالتالي تحسّن أو تراجع قدرة هذا الأخير على استقطاب الاستثمار المحلي والأجنبي. وهو مؤشر مكوّن من عنصرين، أولهما تطوّر سعر الصرف الحقيقي للعملة الوطنية، أي سعر صرفها تجاه سلة العملات الأجنبية التي يتعامل بها الاقتصاد الوطني، وثانيهما تطور مؤشر الأسعار المحلية مقارنة بالأسعار العالمية. ويؤدي تحسّن سعر الصرف الحقيقي للعملة الوطنية إلى إزالة حوافز الاستثمار في قطاع السلع المعدّة للتبادل الدولي وضرب قدرة الاقتصاد المعني على التصدير. ويلعب ارتفاع الأسعار المحلية مقارنة بالأسعار الأجنبية الدور ذاته. ويؤدي ارتفاع الاثنين إلى تزايد كلفة الإنتاج مقارنة ببقية العالم، وإزالة الحوافز لدى المستثمرين للقيام باستثمارات في الداخل. وينجم عن ذلك إحباط النمو.
ويمكن الاطلاع على عرض لتطوّر هذا المؤشر بين عامي 1993 و1997 في ورقة الدكتور اسكندر مكربل الممتازة المنشورة في «قضايا النهار» بتاريخ 8 كانون الثاني 2001، تحت عنوان: «في أسباب ركود النشاط الاقتصادي في لبنان». وقتها كان تحسّن سعر صرف الليرة الحقيقي هو الذي يتحمّل المسؤولية الرئيسية في تراجع تنافسية الاقتصاد الوطني وإزالة حوافز الاستثمار فيه. وأظهرت إعادة احتساب الدكتور نحاس للمؤشر ذاته أن سعر الصرف الفعلي الحقيقي ارتفع بنسبة 100 في المئة بين عامي 1990 و2000. أي إن كلفة الإنتاج في لبنان تضاعفت بين هذين التاريخين، مسبِّبة انعدام الاستثمار في القطاعات المنتجة خلال تلك الحقبة.
أما في قراءته للوضع الراهن، فيظهر الدكتور نحاس ارتفاع الأسعار المحلية بنسبة 18 في المئة خلال عامي 2008 و 2009، وبالتالي مسؤولية رئيسية لهذا الارتفاع في إحباط النمو في قطاع السلع المعدّة للتبادل الدولي. ويمكن ربط هذه المقاربة النظرية بالدراسات التي ترى في ارتفاع سعر الصرف الفعلي الحقيقي للعملة الدليل الأهم على أن البلد المعني هو ضحية أعراض «المرض الهولندي»، التي يختصرها ارتفاع كلفة الإنتاج الوطني وتراجع حوافز الاستثمار فيه. وذلك بسبب التدفّقات المالية الخارجية وما تؤدي إليه من قدرة على الإنفاق ترفع الأسعار وكلفة الإنتاج وتضرب تنافسية الاقتصاد الوطني. ويمكن القول إنّ الإطار النظري المعتمد لتشخيص الوضع الراهن هو إطار ملائم.
ب. أظهرت ورقة الدكتور نحاس تركيزاً على الحلول الضريبية في مواجهة الوضع القائم. بل يمكن اختصار الورقة كلها بالمعالجات الضريبية التي تضمّنتها. وتقترح الورقة استبدال الضرائب على الاستهلاك بضرائب على الدخل. وتقترح فرض ضريبة على المداخيل الريعية، وخصوصاً الريوع المالية، أي الفوائد. وتقترح إخضاع الأرباح العقارية والفوائد للاقتطاع الضريبي نفسه الذي يطال أرباح الشركات. وتقترح منح حوافز ضريبية للشركات، وخفض الضرائب على الاتصالات.
ومن شأن ذلك توفير مداخيل للخزينة تؤكد ضرورة أن تحتفظ الدولة بملكية القطاعات المقترحة للخصخصة، لما لهذه الأخيرة من دور مهم في توفير إيرادات حكومية. ولهذه الاقتراحات هدف إضافي، هو إعادة توزيع الدخل بما يخفف من حدّة استقطابه في لبنان. بل يرى الدكتور نحاس لهذه السياسة دوراً أهم، هو تحسين مداخيل العاملين بالأجر من اللبنانيين، وخصوصاً الشباب منهم، لتخفيف الهجرة الكارثية إلى الخارج. ويمكن للمطّلع على نص الدكتور نحاس المنشور في «الأخبار» بتاريخ 24 و25 حزيران 2009 تحت عنوان: «اقتصاد السوق الاجتماعي نموذجاً للبنان؟»، أن يلمس لديه همّ تأمين تكافؤ أفضل بين المواطنين في توزيع الدخل.
ومن يرصد الكتابات الاقتصادية في لبنان خلال حقبة ما قبل الحرب، يرَ حضور البعد الاجتماعي للسياسة الاقتصادية على الدوام لدى العديدين، من مثل ألبر بدر وسمير مقدسي وغيرهما. بل كان ثمة تغليب لهذا الهمّ في القراءات المقدمة، إلى درجة إغفال أن التنمية ليست فقط إعادة توزيع، بل هي في الأساس «تصنيع متأخر»، يتطلّب تحقيقه تدخلاً كثيفاً وفعالاً للدولة في ميادين تمويل الاستثمار والسياسة الصناعية وسياسة التجارة الخارجية.
لقد أظهرت هذه الفقرة أن قراءة الدكتور نحاس تضمّنت تشخيصاً لأسباب إحباط النمو في لبنان من خلال مؤشر سعر الصرف الفعلي الحقيقي للعملة، يجمع عليه الاقتصاديون في لبنان. وأظهرت أيضاً أن المعالجات الضريبية هي محور ورقة الدكتور نحاس حول السياسة الاقتصادية المطلوبة.

تقويم هذه «المحاولة الإصلاحية»

أ. لا يمكن بالطبع قصر السياسة الاقتصادية المطلوبة للبنان على المعالجات الضريبية، ولو أن هذه الأخيرة ضرورية. ولا نستطيع أن نوافق الدكتور نحاس على أن الأمور تقف عند السقف الذي حددته ورقته. وهل يمكن التعويل على المعالجات الضريبية لحفز الاستثمار؟ وتبدو الورقة كأن هذا الشق، شق حفز القدرة على العرض في الاقتصاد الوطني، ناقص فيها.
ولقد كان هذا الشق ناقصاً في مقاربة حكومة الرئيس الحص (1998ــــ2000) للسياسة الاقتصادية. وأدى عجز تلك الحكومة عن اعتماد مقاربة تقوم على حفز الاستثمار وتشجيع عرض السلع والخدمات إلى سقوط شرعيتها وإحباط آمال الذين عوّلوا عليها.
إن المطلوب هو استخدام أدوات تتجاوز بمراحل الوسائل الضريبية. أي المطلوب هو استخدام جديد لم يعرفه لبنان سابقاً لأدوات السياسة التجارية والصناعية الانتقائية، أي أدوات الحماية (protection) والدعم (subsidy) للقطاعات الإنتاجية. ويكون ذلك ببلورة سياسة متكاملة لدعم الصناعات الناشئة (infant industry). ويكون باعتماد سياسة صناعية انتقائية (selective) تقوم على دعم نشاطات صناعية بعينها بغية إكسابها القدرة على الخروج إلى الأسواق الدولية. ويتطلّب ذلك أن تتولى الدولة توفير قروض إنتاجية للمؤسسات الجديدة بمعدلات فائدة مخفوضة أي مدعومة، وليس بأسعار السوق. وفي قراءة سابقة لعناصر السياسة الاقتصادية البديلة، نشرت في «قضايا النهار» تحت عنوان «أفكار اقتصادية لبرنامج حكومي غير تقليدي»، بتاريخ 17 تشرين الثاني 2004، اقتُرحت أربعة محاور لهذه السياسة:
1) توفير حماية ودعم للمؤسسات الإنتاجية مقابل تعهّدها بتحقيق مقدرة تنافسية دولية.
2) دعم الاستثمار من خلال تولّي الدولة إنشاء مناطق صناعية توضع في تصرّف المنتجين.
3) إنشاء «مصرف حكومي للتنمية» يعمل على قاعدة «تأميم مخاطر الاستثمار» التي اعتمدتها الدولة التنموية الآسيوية، لإعطاء حوافز كافية للمستثمرين من القطاع الخاص.
4) إجراء إصلاح إداري جزئي يوفّر جهازاً إدارياً حكومياً جديداً يتولى وضع هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ.
وطبعاً يرى البعض أن حمل لواء سياسة ضريبية من النوع المعروض أعلاه أسهل بكثير من اقتراح سياسة تدخلية لحفز الاستثمار كالتي عُرضت، وأن الأولى لا تفترض أي تغيير في طبيعة النظام الاقتصادي القائم.

من يرصد الكتابات الاقتصادية في لبنان خلال حقبة ما قبل الحرب، يرَ حضوراً دائماً للبعد الاجتماعي للسياسة الاقتصادية

ب. الإصلاح ليس بالطبع مجرد مسألة تقنية. لا يمكن تجاهل تعريف الدولة اللبنانية بوصفها دولة نيو باتريمونيالية، أي قائمة على الاستزلام السياسي. أي إنها دولة يتحدد سلوكها بالعلاقة التي تنسجها معها النخبة السياسية، والتي تقوم على استخدام الموارد العامة لتوفير منافع خاصة لأفراد هذه النخبة. وعند بياتريس هيبو (Hibou) أن خصخصة الدولة هي سيرورة عرفتها غالبية البلدان النامية. وقد مثّلت مقاربة للإصلاح مؤداها انحلال الإدارة العامة وخصخصة الوظائف السيادية للدولة وتعميق حالتي التخلّف السياسي والاقتصادي في هذه البلدان.
ويسمح هذا الإطار النظري بتعريف الحقبة السابقة بكاملها، بوصفها حقبة خصخصة للدولة حمل لواءها غلاة الخصخصة في لبنان. وليس فيها ما هو استثنائي أو عائد للفرادة اللبنانية. وقد بات يصحّ مع استمرار هذا النهج أن توصف الدولة اللبنانية بما وصف به جان فرنسوا ميدار (Medard) دول أفريقيا حيث «ينتهي الغلو في خصخصة العام، بجعل هذا العام يختفي».
ويقع كل هذا على نقيض ما يقتضيه بناء الدولة وتحقيق «التصنيع المتأخر»، بل جعل لبنان يتلافى الاندثار بفعل الهجرة. وهل يمكن توفير أي دعم للقطاعات الإنتاجية مع إدارة عامة شاغرة وعديمة الكفاءة؟ والبديل المطلوب هو مقاربة دولتية (étatiste) للتنمية تتولى فيها إدارة عامة من نوع آخر قيادة مشروع التنمية.
لم يطّلع المتحمّسون لحكومة الرئيس الحص آنذاك على مجريات الأمور داخل مجلس الوزراء. وليس دقيقاً القول إنها كانت حكومة موظفين على شاكلة الحكومات التي كان يؤلّفها الرئيس ديغول. وقد تصدى فيها السياسيون التقليديون للوزراء التقنيّين، وتعرّض الوزير قرم للتهديد. لكن فشل تلك الحكومة التي أنهت عهد الرئيس لحود الطويل كدهر من بدايته، يعود إلى القصور الذاتي لمن رأى فيه الكثيرون قدرة على اجتراح المعجزات.
السؤال الأخير للوزير نحاس: هل تتوقعون فعلاً تحقيق إنجازات ومعجزات مع «طويلي العمر» من أفراد وممثلي النخبة التقليدية؟ وهل تتوقعون الوصول إلى يوم تتوقفون فيه عن بيع الناس أوهاماً الغاية منها تبرير البقاء في تركيبات كهذه؟
* أستاذ جامعيّ