إيلي شلهوبلعلّها أكثر المهمّات إثارةً للإحراج، أن يضع المرء نفسه في موقع الدفاع عن عمرو موسى. ليس عنه كشخص، وهي مهمة انتحارية طبعاً، بل عن فكرة صدرت عنه، أو مشروع عرضه. غير أن مغامرته الأخيرة في شأن «رابطة الجوار» تستحق المخاطرة.
الفكرة بسيطة: نتعرض، كعالم عربي، لتهديدات أمنية استراتيجية، في مقدّمها «النووي الإقليمي» مع إسرائيل ذريّة وإيران تسير على هذه الطريق، و«الصراع السنّي الشيعي الذي أُخرج من قمقم التاريخ ليكون بلاءً يمزّق النسيج المجتمعي العربي والإقليمي». يترافق ذلك مع «دخول استراتيجي قوي لتركيا على خريطة السياسة الشرق أوسطية، يستند في حركته إلى دبلوماسية حديثة عالية الكفاءة»، و«دخول إيراني تكتيكي واستراتيجي على الخريطة نفسها بسياسة جريئة وبدبلوماسية عاصفة ذات تأثير لا يخفى على مجمل الوضع الأمني في المنطقة»، في ظل «دور إسرائيلي يستند إلى الإمساك بخناق الحقوق الفلسطينية والتمسّك باحتلال الأراضي العربية، والتلويح بما تسمّيه الخطر الإيراني».
الرؤية واضحة في ذهن موسى، تستقرئ ذهنية الحضور في القمة: تركيا «جار وشقيق للعالم العربي»، وإيران دولة «نختلف معها في عدد من القضايا، كذلك فإن عدداً من مواقفها يقلق البعض منا... ولكنها تشاركنا في الجغرافيا والتاريخ ولنا معها مصالح مشتركة عديدة». أما إسرائيل «فلا مكان لها في محافلنا، ما بقيت متمسّكة بتصورها أنها دولة فوق القانون، وظلّ قطارها يسير معاكساً لقطار السلام».
واقع كهذا يفترض، بحسب موسى، إقامة «منطقة جوار عربي»، تبدأ بدعوة تركيا (ـــــ أردوغان التي تجاوزت معظم العرب في الدفاع عن قضاياهم) ومعها تشاد لتأليف نواة هذا التجمع، بالتزامن مع «إطلاق حوار عربي إيراني» يُنظر على أساسه في دعوة الجمهورية الإسلامية إلى الانضمام إلى الرابطة الإقليمية التي تستهدف أيضاً إثيوبيا وإريتريا والسنغال وغينيا ومالي والنيجر و«غيرها من مجموعة الدول المجاورة لنا على البحر المتوسط وجنوب أوروبا».
يبدو واضحاً من سياق العرض أن طرح المشروع لا ينبع من اقتناع بارتقاء المنظومة العربية وبلوغها حدّاً من الاندماج والثقة بالنفس ما يدفع بها إلى التوسّع واحتضان محيطها واستيعابه منعاً لانعكاساته السلبية، على غرار ما فعل الاتحاد الأوروبي في «الشراكة الأورو ـــــ متوسطية».
على العكس، يتضمن كلام موسى إقراراً لا لبس فيه ببلوغ الواقع العربي حالاً من الاهتراء جعلته عرضة لعواصف القوى الإقليمية الثلاث المجاورة، التي تزداد قوةً يوماً بعد يوم. بل يستبطن تحذيراً من أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيجعل القرار العربي بيد الجوار الإقليمي، أو بالأحرى سيجعل المحيط العربي ملحقاً بالقوى الثلاث السالفة الذكر.
خلفية تحليله لا تخفى على أحد: صعود تركيا السنّية سيحجب قوى عربية رئيسة، ولا سيما السعودية ومصر، ولذلك من الأفضل استقطابها في إطار إقليمي تُوزّع من خلاله الأدوار بما يضمن للعرب حداً أدنى من المشاركة في القرار. أما إيران الشيعية، التي تجتاح العالم العربي بالخطاب الأكثر جذريةً حيال إسرائيل والحقوق الفلسطينية، فتتّسع دائرة نفوذها يوماً بعد يوم بما يهدّد بانقسام «الأمة» والتحاق جزء منها بالركب الفارسي. كذلك فإن خيار مواجهتها أثبت عدم جدواه، فضلاً عن أنه يتهدّد المنطقة بفتنة سنّية شيعية لا تحمد عقباها. لذلك، لا بد من الاستعاضة عنه بالحوار على أمل التوصل إلى توافق في شأن الملفات الخلافية يؤدي إلى صفقة تُقرّ خلالها ترتيبات أمنية إقليمية وتوزّع مناطق نفوذ بما يضمن استيعاب المارد الفارسي والحدّ من «خطره» على المصالح العربية.
إذاً هي «رابطة امتصاصية»، تعتمد منهج «الاحتواء الاستباقي» بحسب مصطلحات «العرب الجدد!»، تلك الفئة التي يبدو أنها في طريقها إلى الظهور في المساحة الوسطية بين المعادين لإيران والمتحالفين معها. هدفها العمل على الحفاظ على دور وكينونة عربيين في محيط إقليمي يزداد جبروتاً، بما يضمن بقاء السعودية ومصر، اللتين تحتكران القرار العربي (ومعهما سوريا طبعاً)، قوّتين كبريين في المنطقة.
بهذا المعنى، يكون عمرو موسى قد نجح في تشخيص الداء واقتراح الدواء، ساعدته على ذلك براغماتيّته التي لا بد أوصلته إلى اقتناع بعقم ما يُعرف بـ«النظام العربي»، مع ما يستبطنه ذلك من تبخّر أحلام الوحدة واستعادة الأمجاد الغابرة، التي تحوّلت إلى كوابيس تؤرّق أطفال غزة وتُدمع أعينهم وهم يرقبون معبر رفح المغلق ببطونهم الخاوية.
لكن لسخرية القدر، جاءت الممانعة الأساس لخطوة كهذه من الأطراف الأكثر استفادةً منها، أي القاهرة والرياض، بحجج مختلفة، بينها أن وقت الحوار لم يحن بعد، ولا أحد يعلم لماذا؟ هل هي مجرد مكابرة على الاعتراف بالهزيمة في المعركة التي خيضت ضد طهران منذ ما بعد سقوط بغداد؟ أم هي ارتباطات إقليمية ـــــ دولية (اقرأ إسرائيل وأميركا) تكبّل الأيادي وتُعمي البصيرة؟ أم نزعة مذهبية إقصائية (لم يعترض أحد على ضمّ العثمانيين الجدد، ولو من باب السؤال عن مصير العلاقات الأمنية والعسكرية التركية مع تل أبيب)؟ أم رهان على مغامرة إسرائيلية حيال إيران؟ أم استمهال حتى الخريف بانتظار الخطوة التالية لباراك أوباما لعلّها تكون حملة تأديبية على الجمهورية الإسلامية؟