h1>محكمة التمييز تفسخ حكما ً للمطبوعات
نزار صاغيّة *
في 24 ـــــ 3 ـــــ 2010، أصدرت الغرفة الثالثة لمحكمة التمييز المؤلفة من القضاة وائل مرتضى ونبيل صاري وسليم الأسطا القرار رقم 87/2010 بفسخ الحكم الصادر عن محكمة مطبوعات بيروت (2008)، وإعلان براءة الإعلامية غادة عيد من جرم القدح والذم والتحقير بحق موظف يشغل منصباً رفيعاً في وزارة الصحة العامة، على خلفية اتهامات بتجاوزات مالية وصرف نفوذ. واللافت أن المحكمة خلصت إلى قرارها، بعدما تحرّت عن غايات المشرّع عند وضع قانون العقوبات (1943)، ولا سيما لجهة دور الحرية الإعلامية في مكافحة الانحراف في المرافق العامة. وبالطبع، يكتسب هذا القرار أهمية إضافية عند مقارنته بما يحيطه من توجهات قانونية، تغلب فيها المجاملة ومراعاة أصحاب النفوذ على كل ما سواه. فهل يبقى هذا القرار معزولاً، بمثابة علامة فارقة، تتردّد أصداؤه بين الفينة والأخرى كإحدى الومضات القضائية الجميلة أم أن من شأنه أن يمثّل انعطافة في اتجاه إعادة الاعتبار، أقلّه إلى المساءلة الإعلامية، في كل ما يتصل بالشأن العام؟ وهذا ما أفصّله أدناه:

دور الإعلام في قانون العقوبات

من يقرأ القرار، سرعان ما يتبيّن أن محور النقاش يتصل بتفسير المادة 387 من قانون العقوبات، التي تجيز تبرئة الذم إذا ثبتت صحته واتصل بأيّ قيّم على وظيفة عامة (باستثناء رئيس الجمهورية) في ما يتعلق بوظيفته. فالحكم الابتدائي أدان المدعى عليها عيد بجرم الذم على خلفية أنها عجزت عن إثبات صحة جميع الأخبار والاتهامات التي أوردتها بحق المدعي، فمجلس شورى الدولة نقض بعض قرارات هيئة التفتيش المركزي بحق الموظف، ولم ينظر بعد في سائر القرارات الأخرى الصادرة بحقه، التي استندت إليها الإعلامية. وإزاء ذلك، توقفت المحكمة عند عبارة «جميع الأخبار» (وقد سطّرتها في متن قرارها) التي تعني ضمناً أنّ المدعى عليها قد أثبتت صحّة بعضها. فما العمل في قضية مماثلة؟ فإذا عجز الإعلامي عن إثبات أيّ جانب من أخباره، سهلت بالطبع إدانته. كما تسهل تبرئته إذا أثبت صحة جميع أخباره. أما وأنه قدّم أدلة على صحة بعضها فقط، فإنّ الأمر يصبح دقيقاً بدرجة أو بأخرى. فإذا برّئ الإعلامي في حالة مماثلة، فإنّ ذلك يفسح المجال أمام تغلفة أخبار ملفقة بأخبار صحيحة وعلى نحو قد لا يخلو من الكيدية. أما إذا أُدين، فإن ذلك يجيز للموظف الذي ثبت ارتكابه عدداً من المخالفات، أن يستغل أيّ ثغرة في الأخبار المنشورة أو أي صعوبة في تأمين أدلة على أيّ منها، للظهور مظهر الضحية وأيضاً لإدانة الإعلامي الذي ربما بذل جهوداً جبّارة لوضع اليد على فساده.
كما أن المحكمة تساءلت في السياق نفسه عن طبيعة الإثبات المطلوب وفق هذه المادة: فهل هي تفترض تقديم أدلة حاسمة قاطعة، الأمر الذي يحوّل محكمة المطبوعات إلى ما يشبه محكمة لمخالفات الإدارة العامة أم أنه يكفي إثبات أنّ الصحافي تصرف بحسن نية، وأن الذم ليس كذباً مجرداً أو مختلقاً؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة، رأت المحكمة أنه لا بد أولاً من تحديد غايات المشرّع من الأحكام المذكورة تمهيداً لتفسير المادة 387. فبعدما استعادت مقولة إنّ الإعلام «سلطة رابعة في دولة القانون»، رأت «أن المشترع أراد (من خلال هذه المادة) إخضاع تصرفات كل عامل في القطاع العام (بخلاف تصرفات الشخص العادي) باستثناء رئيس الجمهورية... لرقابة الرأي العام وإمكان تسليط الأضواء عليها إذا ما انطوت على انحراف من شأنه الإخلال بحسن سير مرافق الدولة العامة» و«أنّ المنحى العام لدى المشرع يهدف إلى تنبيه كل عامل في القطاع العام إلى أنّ من شأن قبوله العمل فيه أن يحرمه في كل ما هو متعلق بممارسته أعماله الوظيفية من المنحة المقررة له بشأن تصرفاته الشخصية كشخص عادي فـ«يكون أكثر التزاماً بمقتضى موجباته الوظيفية وأشد حذراً دون خرقها، حتى لا يقع في دوائر الاتهام المعنوي عبر الذم به بوسائل الإعلام». وهذا الأمر «يعني أنّ ثمة حقاً مبدئياً لكل امرئ بصورة عامة وللإعلاميين بصورة خاصة بحكم مهنتهم في أن يسلّطوا الضوء على كل ما يستثير الشبهات حول عدم سير المرافق العامة وفقاً للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء». بل ذهبت المحكمة إلى حد وصف دور الإعلام في هذا المجال بأنه «مؤازرة (للقضاء وللسلطات العامة) على مكافحة آفة الهدر المزمن التي تكاد تقوّض كيان الدولة».
وعلى هدي هذه الحيثيات، تصدت المحكمة للمسألة الأساسية المذكورة أعلاه، لتستخرج قاعدة اجتهادية في سياق التوازن بين دور الإعلام في فضح الفساد واعتبارات كرامات الناس. فبخلاف محكمة المطبوعات التي رأت أن الإثبات المطلوب في المادة 387 هو إثبات جميع الأفعال موضوع الذم، استخرجت محكمة التمييز مفهوم «المنحى العام للموظف في إطار ممارسة وظيفته». فـ«لا يقتضي مؤاخذة مطلق الذم جزائياً إذا أورد واقعة لم يتمكن من إثبات صحتها ربما، طالما أنها كانت داخلة في الإطار العام المنطوي على ثبوت إقدام الموظف على تصرفات مالية خاطئة وضارّة بالمال العام، وعلى قدر أكبر من الأهمية من تلك الواقعة المشار إليها». وهكذا، بيّنت المحكمة أن بإمكان الإعلامي أن يبرأ من الذم حتى لو لم يثبت بعض الوقائع الواردة في أعماله إذا أثبت أموراً ثلاثة: الأول وجود منحى عام لتصرفات الموظف المعني، والثاني دخول الوقائع غير المثبتة ضمن هذا المنحى العام، والثالث أن تكون الوقائع غير المثبتة أقل خطورةً من الوقائع المثبتة. وبهذا التفسير، تكون المحكمة قد وسّعت الباب لتطبيق المادة المذكورة بحيث عزّزت حق الإعلامي بفضح تجاوزات الإدارة دون إثقال كاهله بإثبات كل كلمة يقولها، كما جردت بالمقابل الموظف الثابت تورطه عموماً من إمكان استغلال أيّ ثغرة في الأخبار الفاضحة لأداء دور الضحية.
ولعل أول ما نفكر فيه على ضوء ذلك هو الحكم الصادر ضد أدونيس عكرة (2009) بشأن الوقائع الواردة في كتابه المحظور «حين أصبح اسمي 16»: فقد عاب الحكم عليه ذمّه القضاء والجيش والطبقة السياسية، لسبب أو لآخر، فيما ثمة إجماع على المنحى العام الذي اتخذه للأسف القضاء والجيش والطبقة السياسية خلال أحداث 7 آب 2001، بحقّه وبحق رفاقه الذين باتوا هم أيضاً آنذاك مجرد أرقام. فما مدى ملاءمة إلقاء ملامة على الكاتب على خلفية أنه عجز عن إثبات تفاصيل معينة إذا آل المنحى العام بشكل بيّن وواضح إلى استباحة حقوق أساسية للمواطنين؟
فضلاً عن ذلك، استعادت المحكمة مضمون قرار سابق صادر عن محكمة مطبوعات بيروت (برصوميان ضد النهار، 25 ـــــ 1 ـــــ 1999) مفاده أن الإثبات المطلوب وفق المادة 387 لا يفترض بالضرورة تقديم دليل قاطع حاسم على صحة الواقعة، بل فقط إقامة الدليل على أن الواقعة التي جرى بثّها ليست كذباً مجرداً أو اختلاقاً وذلك إعمالاً للقاعدة التفسيرية التي تحتم تفسير النصوص الجزائية الغامضة أو التي تحتمل التأويل على النحو الأكثر مراعاةً للمدعى عليه (وفي حال جرائم المطبوعات لحرية الإعلام). وقد برّرت المحكمة هذه التوجهات بأنّ صلاحيتها تقتصر على النظر في جرائم المطبوعات، وأنه ليس لها تالياً (حتى لو أرادت ذلك) إجراء تحقيق مفصّل ودقيق في التجاوزات موضوع الذم لأن التمحيص في جزئيات هذه التجاوزات إنما هو داخل ضمن صلاحية الهيئات الرقابية ذات الاختصاص.
وهكذا، يظهر ممّا تقدّم أنّ محكمة التمييز قد انحازت بوضوح إلى تعزيز دور الإعلام في مساءلة القيّمين على خدمة عامة. بقي أن نحدّد أبعاد هذا القرار، وخصوصاً على ضوء توجهات القضاء والتشريع في هذا المجال.

في تقويم أبعاد القرار

هنا، تجدر الإشارة بدايةً إلى أنّ لتفسير المادة 387 وكيفية تطبيقها من حيث المبدأ أبعاداً سياسية فائقة الأهمية: ففيما يؤدّي التوسع في تطبيقها إلى تعزيز مسؤولية القيّم على خدمة عامة في احترام القوانين أمام الرأي العام، يؤدي التضييق في تطبيقها إلى وضعه بمنأى عن هذه المساءلة، في نظام يصبح إذ ذاك بطبيعة الحال، أكثر قابليةً للفساد والمجاملة وفرض «الهيبة»، كما قد تكون عليه بدرجة كبرى الحال الغالبة اليوم.
فعلى صعيد القضاء، وعدا ما يحمله القرار من تأويل جديد للمادة 387، فإنه يمثّل دون ريب أحد تطبيقاتها النادرة. فآخر الأحكام في هذا المجال، هو الحكم المشار إليه أعلاه والصادر في 1999 بتبرئة جريدة النهار من جرم الذم، علماً أن هذا الحكم صدر آنذاك في ظروف سياسية مؤاتية، خلال الأشهر الأولى من عهد لحود، وعلى خلفية خطاب القسم والمحاسبة والمساءلة. كما يلحظ أن القاضي وائل مرتضى (وهو نفسه رئيس الغرفة مصدرة القرار موضوع هذا المقال) شارك في وضعه كمستشار إلى جانب كلّ من القاضيين لبيب زوين وغادة عون.
وبالطبع، تمثّل قلة الأحكام التي طبقت إيجاباً هذه المادة طوال العقد الماضي علامة استفهام كبرى. وقد يكون من أهم أسباب ذلك، أولاً إعراض المحكمة إجمالاً عن إيجاب طلبات للحصول على إثباتات معيّنة كاستدعاء شهود أو إلزام طرف معين بإبراز عقد إلخ.. وذلك تجنّباً للخوض في مساءلة الأشخاص المعنيين، وثانياً، تغليب مسألة هيبة المؤسسات على وظيفة المساءلة. فبمعزل عن الإيجابيات التي قد تنجم عن فضح ممارسة معينة منسوبة للقضاء أو للجيش مثلاً، فإنّ الأحكام ما برحت ترى أن بعض الأقوال تمس بهيبة القضاء أو الجيش وتالياً تمثّل جرماً بمعزل عن مدى صحتها. وفي هذا السياق، لا بد أن يمثّل مفهوم «المنحى العام» الذي استخرجته محكمة التمييز وفق ما سبق بيانه باباً لتسهيل تطبيق المادة 387 عقوبات. كما لا بد أن تمثّل الإشارة إلى أهداف المشرّع ونيّاته في محاربة الانحراف في الشأن العام سبباً لتوسيع إطار تطبيق المادة بحيث تشمل الشخصيات العامة أو أيّ تصرف قد يرتدّ على ممارسة الوظيفة العامة كما ورد عن طريق التلميح في القرار (يراجع بهذا الشأن، النقاش بشأن المنازعة بين كريم فخري وسماح إدريس).
كذلك يسجّل للأمانة، فضلاً عن ذلك، أحكام قليلة أخرى آلت عملياً إلى نتائج مماثلة لتطبيق المادة 387 دون الإفصاح عن ذلك، كما هي حال الحكم الصادر حديثاً في 1ـــــ2ـــــ 2010 عن محكمة المطبوعات في بيروت في دعوى إلياس سكاف ضد طوني أبو نجم (النهار) بشأن القرارات المنسوبة لهذا الأخير بصفته وزيراً للزراعة ومنها القرارات المتصلة باستيراد مواد غذائية فاسدة (!). فدون الخوض في مدى ثبوت الأفعال (بالاستقلالية عن المجادلة في مضمون التحقيقات نفياً أو إيجاباً)، خلصت محكمة المطبوعات إلى تبرئة المدعى عليه على خلفية أن انتقاداته هدفت إلى معالجة موضوع حساس يتناول الأمن الغذائي للمواطنين بهدف تنوير الرأي العام، وأنها بقيت ضمن حدود النقد المباح الذي يجري بهدف السعي إلى تحقيق مصلحة عامة دون الذم والقدح والتحقير بالأشخاص، ولو وردت في عبارات مباشرة قاسية ولاذعة. ولكن هل من ذم أكبر من اتهام شخص معين بتوقيع قرارات باستيراد مواد غذائية؟ وكأنّ المحكمة أرادت إنصاف المدعى عليه بتبرئته على ضوء قناعتها بصدقيّة المستندات التي قدّمها دون المضيّ إلى حد إثبات انحراف المدعي عن طريق التدقيق صراحةً في صدقية المستندات التي تدينه (وهو أمر لا يقل للمناسبة أهميةً عن التبرئة).
ولا تقل أهمية القرار في مجال التشريع عن أهميته في مجال الاجتهاد. فأن يذكّر القرار الصادر عن أحد أعلى المراجع القضائية، بأهمية حرية التعبير والحرية الإعلامية ودورها في المساءلة ومكافحة الفساد، يمثّل رافعة مهمّة لتطوير القوانين في هذا الاتجاه وبأقل تقدير كابحاً أمام الساعين إلى تقييد حرية الإعلام في نقد العاملين في المرافق العامة في مسألة أو في أخرى.
ولهذه الغاية، تكفي مقارنة حيثيات القرار بالأسباب الموجبة لمشروع القانون الآيل إلى معاقبة المس بهيبة القضاء المؤرخ في 1998 والمعدّل في أواخر 2008، على خلفية بعض حلقات برنامج السيدة غادة عيد نفسها. فمشروع القانون المذكور آل عملياً في بعض جوانبه إلى استثناء الذم بالقضاة من أحكام المادة 387 عقوبات، وذلك بحجة أن هيبة القضاء، «كما هيبة الجيش»، تمنع التعرض له ـــــ ومعه لجميع القضاة ـــــ في الإعلام، بمعزل عن مدى صحة الأفعال المنسوبة إليهم. لا بل إنّ الأسباب الموجبة ذهبت إلى حد المطالبة بتحصين هيبة القضاء في هذا المجال أسوةً بهيبة الجيش! بل أسوأ من ذلك، فقد ذهب مشروع القانون في صيغته 2008 إلى تجويز الحبس الاحتياطي في أيّ تعرض إعلامي لهذه الهيبة وذلك على خلفية أنّ حظر التوقيف الاحتياطي أعطي للإعلاميين «كي يحافظوا على حرية القول المعطاة لهم في دولة القانون، لا ليتهجّموا مجاناً على حرمات المواطنين وكراماتهم، وخصوصاً إذا كانوا يتولّون مهمة القضاء» حسبما جاء في بيان مجلس القضاء الأعلى في 15 تموز 2008! ومن هنا، تبدو حيثيات القرار التي نطقت بها محكمة التمييز بصفتها أعلى المراجع القضائية، ولا سيما لجهة دور الإعلام في تسليط الضوء على أيّ انحراف داخل الإدارة العامة، بمثابة اعتراض شديد البلاغة على موقف مجلس القضاء الأعلى وعلى المشروع برمّته. وهو اعتراض يسهم دون ريب في تعزيز التوجه المعلن لوزير العدل في إعادة النظر في مشروع القانون، احتراماً للحرية الإعلامية.
كذلك تكفي مقارنة الحيثيات المذكورة بقانون الانتخابات النيابية (2008)، وبوجه خاص بأبوابه التي صوّرت وفق معايير السياسة اللبنانية على أنها مشروع إصلاحي. فبخلاف المعايير المعتمدة في دول عدة، التي تهدف إلى توسيع هامش النقد المباح خلال الحملات الانتخابية وذلك تعزيزاً لحقّ المواطن في معرفة المرشح الذي يطلب حق تمثيله فلا يخدع به (وأشهر الشواهد على ذلك ما مارسه مثلاً الوزير السابق محمد يوسف بيضون ضد منافسه ناصر قنديل عن طريق كشف شهاداته المزوّرة في انتخابات 2000)، ارتأى المشرّع اللبناني أن يغلّب اعتبارات «المجاملة» على صحة التمثيل، فوضع نصوصاً خاصة توسّع إطار الأمور المحظورة بحيث تشمل التشهير والقدح والذم والتجريح بأيّ من المرشحين أو اللوائح (بمعزل عن مدى صحتها) وأيضاً كل ما من شأنه أن يمثّل وسيلة من وسائل الضغط أو التخويف أو التخوين أو التكفير إلخ..، مع تشديد العقوبات في كل من هذه الحالات إلى حد إجازة تعطيل الوسيلة الإعلامية المخالفة. رجاءً، لا تطبّقوا هذه النصوص على الانتخابات البلدية، حسبما يوحي به مشروع القانون (المادة 49)، فمن حق المواطن أن يعرف من ينتخب!
* محامٍ وباحث في القانون