ما يحدث الآن هو شلّ للسلطة من مركزها، فبعد تجريب خيار تحريك المناطق ودفعها إلى الانتفاض تبيّن أن الحصيلة لم تكن على قدر التوقعات، ولهذا الأمر أسباب موضوعية تتصل بطبيعة حراك المناطق الذي مهما تطوّر يبقى بعيداً عن الاشتباك المباشر مع السلطة وأجهزتها. وبما أن هذا الاشتباك هو المفتاح في عملية المواجهة القائمة بين الحراك والسلطة يصبح الاتكال عليه هو المعيار لجدية أيّ مواجهة أو فاعليتها.
بهذا المعنى فإنّ الاعتماد في المرحلة المقبلة سيكون على الحراك المركزي «حصراً» ليس لأنه أفضل تنظيمياً من سواه وإنما بسبب فاعليته التي تبدو مضاعفة قياساً إلى الآخرين. وقد اتضحت لنا هذه الفاعلية من خلال القدرة على توجيه ضربات «قاصمة» إلى مفاصل عمل السلطة. وهو بالضبط ما رأيناه الأسبوع الماضي، حيث أخذت هذه الضربات منحىً تصاعدياً، ولم تعد تعتمد على الوتيرة المنخفضة من الاستهداف، إذ بعد منع السلطة من تدفيع الناس ثمن النزهة على الكورنيش جرت استعادة منطقة الدالية - الروشة من الشركة التي أُعطيت عبر الاحتيال القانوني حقّ استثمارها. وهذا التصعيد له طابع مستمرّ ومتدحرج، فهو لا يضرب في مكان ثم ينسحب منه تاركاً المجال للسلطة كي تمحو أثر هذا الضرب وإنما يربط بين الفعل واستمراريته، مهيئاً بذلك الأرض لعملية إشراك المجتمع في «إدارة مرافقه» التي نهبتها السلطة واستولت عليها بالقوة والاحتيال القانوني. هكذا، لم يكتفِ الثوريون بهذه الاستعادة التي تحمل طابعاً رمزياً (من خلال إزالة السياج الذي وضعته شركة سوليدير حول الدالية بالاتفاق مع الدولة) بل أطلقوا وعوداً عملية بالسهر على المنطقة ومنع الشركة المستولية عليها من معاودة تسويرها بالاتفاق مع أجهزة السلطة.
وهذا الفعل له أثر لدى الناس يتعدّى الطابع الرمزي الذي بوشر العمل به، فأنت حين تستعيد ملكاً عاماً منهوباً وتنسب إلى نفسك فعل تحريره تصبح مسؤولاً إزاء الشرائح العريضة التي أولتك اهتمامها واعتبرتك خياراً بديلاً من الإدارة التي كانت تمثلها السلطة. والمسؤولية هنا تعني تطوير الفعل وتحويله إلى نهج يمكن من خلاله إقناع هذه الشرائح بالانضمام إلى الحراك ليس فقط حين يكون التظاهر سلمياً بل أيضاً حينما تحصل المواجهات مع السلطة وتكون الحاجة ماسّة إلى مدد يحمي المتظاهرين ويردّ عنهم اعتداءات الأجهزة الأمنية. الكتلة البشرية في هذه الحالة هي التي تحمي نواة الاحتجاج وتردّ عنها اعتداءات السلطة، وعدم حصول ذلك في عملية استعادة الدالية لا يعني أنّ السلطة ستتغاضى في كلّ مرة، وتترك الناس لانتصاراتها الصغيرة. هي تعرف أن هذه الانتصارات ستتزايد مع الوقت وكلّما تزايدت أصبحت قدرتها على الاحتواء أقلّ من السابق، فبعد إذعانها للثوريين في الدالية انتقلت مجموعة أخرى منهم في اليوم التالي لاحتلال مبنى الواردات في وزارة المال وكادت المجموعة لولا تدخّل القوى الأمنية تحقّق مبتغاها من السيطرة على هذا المرفق الحيوي. وهذا يعني أنّ التراكم الذي يحاول الحراك إحداثه قد بدأ يؤتي أكله، فمباغتة مبنى الواردات هو ثاني تراجع للسلطة في أقلّ من يومين أمام حركة الاحتجاج التي تقودها حركات يسارية (وبدرجة أقلّ ليبرالية) وتحقّق من خلالها انتصارات جزئية على النظام.
الانتصارات هذه بدأت تُحدِث انهيارات داخل بنية السلطة، حيث أصبحت عاجزة عن الاحتواء، وحين تريد ممارسته تفشل كلياً أو تجد نفسها في مواجهة قطاعات ثورية تعرف متى تواجه ومتى تنسحب وكيف تدير اشتباكاً محدوداً معها. هكذا تعمل «الثورة» عموماً، فهي من حيث المبدأ فعل قائم على التراكم، وهذا التراكم يقوم في البداية على عمليات هدم متواصلة لبنى السلطة، وحين ينتهي الأمر وتصبح هذه الأخيرة مشلولة تماماً تبدأ «الثورة» باحتلال الأماكن التي أظهرت السلطة عجزاً عن إدارتها، وقد تكون هذه الأماكن مُحتلّة أصلاً من شركات أو إدارات بالاتفاق مع السلطة كما هي الحال في منطقة الدالية - الروشة أو الزيتونة باي. في هذه الحالة لا تكون «الثورة» قد احتلّت المكان بالمعنى المادي المباشر، وإنما أعادته إلى أصحابه الأصليين، وهذا لا يدخل في إطار الهدم الذي تمارسه الثورات عادةً، ولذلك تبدو الدينامية الحاصلة في لبنان مختلفة بعض الشيء ومرتبطة بسياق أبعد من سياق الاحتجاجات الشعبية التي بدأت عام 2011.
حتى الآن هي لم تأخذ طابعاً عنفياً مباشراً، واكتفت باستهداف السلطة موضعياً والاشتباك معها في أماكن لها طابع رمزي بالنسبة إلى عموم اللبنانيين، وحين تحصل اشتباكات عنيفة ويسقط جرحى أو «ضحايا» تكون السلطة هي السبب لأنها لم تعد تحتمل المزيد من الانهيارات الرمزية في بنيتها. لجوء هذه الأخيرة إلى العنف الشديد في يوم 16 أيلول هو نتاج لهذا الفعل التراكمي الذي قامت به مجموعات الحراك، والذي يجب أن يستمرّ ويتصاعد بمعزل عن الخلافات السياسية والإيديولوجية بين هذه المجموعات.

■ ■ ■


في الأيام المقبلة لا بد من معاودة التركيز على استقطاب الناس إلى الحراك، إذ لم نشهد منذ تظاهرة 29 آب حشداً يتعدّى الخمسة آلاف مواطن ومواطنة، وهذا خطأ تكتيكي لأن الاحتجاج لا يستطيع الاستمرار في ضرب السلطة والاشتباك معها من دون وجود كتلة اجتماعية تحميه منها وتوفّر له الملاءة الشعبية اللازمة. أصلاً لو كانت هذه الكتلة موجودة يوم الأربعاء الماضي لما استطاعت السلطة الاستفراد بالمتظاهرين وضربهم بهذه الوحشية، ولما أُتيحت لها الفرصة لافتعال اشتباك بينهم وبين مجموعات من الفقراء الآتين من ضواحي معيّنة من بيروت. هذا أيضاً خطأ تكتيكي ولتفادي مثل هذه الأخطاء في المستقبل يجب التركيز أكثر على عامل الحشد أثناء الدعوة للتظاهرات أو الاعتصامات التي يُتوقّع أن تُقدِم السلطة خلالها على جرّ المتظاهرين إلى اشتباك تكون هي المستفيدة منه لا العكس. هذا لم يحدث في الخطوات المباغِتة التي قادتها مجموعات تنتمي إلى اليسار، فالوعي لديها كان أكبر وكذا اختيار الأهداف التي تمكن مباغتتها من دون ترك الفرصة للسلطة لكي تستفرد بالمجموعة وتُفرِغ الخطوة من مضمونها. هنا يأتي دور التنسيق الذي يبدو غائباً بين المجموعات أو في أفضل الأحوال غير متفَّق عليه، حيث تحصل الخطوات من دون الاتفاق على الجدوى منها مثلما رأينا في قصّة اقتحام وزارة البيئة. وحين يُتفَق على القيام بخطوة معينة لا تكون القيادة «موحّدة» ويحصل الاستفراد الذي يقود في معظم الحالات إلى ترك السلطة تبطش بالناس قبل أن تتنبه باقي المجموعات إلى حدوث الأمر فتبدأ باحتوائه، أو تتداعى إلى الساحة منعاً لحصول مزيد من العنف من جانب السلطة. هذا لا يدلّ على عدم التنسيق فحسب، بل على نيّة مجموعة بعينها الاستفراد بالحراك وإحراج الآخرين بخطوات غير منسّقة لدفعهم إلى الالتحاق بها بعد أن تكون قد تصدّرت المشهد ونالت الاهتمام الإعلامي الكافي. «الثورة» يا رفاق لا تحدث بهذه الطريقة، وإذا حدثت تكون بمثابة غنيمة للسلطة التي تستطيع في هذه الحالة اللعب على التناقضات الموجودة وحرمان المجموعات من نقاط قوّتها التي تحقّقت بفعل مباغتتها للسلطة في أماكن لم تكن تتوقّعها. إذا لم تستطيعوا التنسيق كما يجب فعلى الأقلّ احشدوا جيداً، وحافظوا على التكتيك الثوري الذي يضرب السلطة في مكان ليكسب من هذا الضرب حشداً أكبر وليس أقلّ.
* كاتب سوري