لعلّ السياقات التي تجري بها الأحداث الحالية في سوريا، منذ سنوات الحرب عليها، لتغيير موقفها ودورها الجيوسياسي المعاند والمعاكس، وضمّها إلى الركب الأميركي، في زمن أفوله عن المنطقة، تمثل فصلاً «تنفيذياً» ثانياً جديداً لأحداث مشابهة مرت على سوريا في أواسط الخمسينيات، وبلغت ذروتها في عام 1957، الذي اعتبر عام أزمة سياسية حادة، حيث كان المطلوب إلصاق تهمة الشيوعية بالطبقة السورية الحاكمة، والمجتمع السوري، وفق رواية مضللة فرضت على المحيط العربي والعالم، رواية مشابهة لهذه الرائجة حالياً، حول أن سوريا، بقضها وقضيضها، قد أصبحت شيعية فارسية، وصار المعسكر الأميركي الغربي، بتوابعه وأذياله ووكلائه الإقليميين، وقتئذٍ، مضطراً لخوض حروب عبر جوار سوريا جميعاً، لانتزاعها من الحضن الشيوعي السوفياتي.
إنّ الفصل الثاني، الذي ينجز حالياً لانتشال سورية من المحور المقاوم، (والحرب بأهدافها المكشوفة للسيطرة على القرار السوري الوطني، وتفتيت كيانها وتجزئته)، ومحاولة فصلها عن إيران، والأذرع المقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق، لا يعدّ أمراً مستحدثاً، أو مبتكراً في السنوات الأخيرة، أو أنه حدث وفق تدفق الأحداث الطبيعي «للثورة السورية» بعفوية، بل شكّل الجوهر الرئيس لمئات الدراسات الأميركية والغربية، طوال التسعينات، وبداية القرن الجديد، وإن ازدادت بعد تعثر مشروع إطلاق ثورة ملونة في إيران، وبعد الفشل الذريع في سحق المقاومة في لبنان، 2006، وفي فلسطين 2008-2009، بالقوة النارية، والحروب القاسية، وبعد فشل محاولة الاحتواء الغربية لسوريا عبر الثلاثي (فرنسا، تركيا، قطر).
كانت حشود القوات التركية والأردنية والإسرائيلية على الحدود السورية في قمة التأهب. أحيطت سوريا بالجيران والخصوم الألداء كما السور المعادي. صار الداخلون إلى سوريا، والخارجون منها، من الإعلاميين العالميين، والسياسيين الدوليين، يحاولون التأكد من أمر واحد: هل أصبحت سوريا قلعة الشيوعية في المنطقة، وستقوم بتصديرها إلى العالم العربي؟
اجتمع الرأي العام العالمي، وضخت رواية طاغية، عن أنّ سوريا تحولت بالكامل إلى الشيوعية، وبات على أميركا والغرب، ووكلائهما في المنطقة، العمل على تحويلها عن ذلك بكل الطرق، ولو بالقوة العسكرية. انبرى لهذا العمل كل الخليط المحيط بسوريا، نظام عدنان مندريس في الشمال السوري، نظام الملك حسين في الجنوب السوري، وكذلك الأنظمة التي انضمت لحلف بغداد (في لبنان والعراق) بالإضافة إلى الكيان الصهيوني.
وسواء كانت تهمة سوريا «الشيعية» أم «الشيوعية»، فواضح أن المنفذين الإقليميين، الذين تولوا سابقاً، ويتولون حالياً، استرجاعها بالقوة المسلحة، هم ذاتهم، لم يتخلف في الفصل الأخير إلاّ العراق «الرسمي» الحالي، بينما انضمت قطر (قاعدة أميركا في المنطقة) لحلقة المتآمرين على سوريا، في حين لم تكن شيئاً مذكوراً على الخريطة، بينما يعّد تحوّل دولة مصر من موقف الداعم للدولة السورية، بموقف قومي صلب في الأزمة السابقة، إلى موقع المهاجم، ثمّ المراقب، ثم المتذبذب حالياً، عاملاً مؤثراً جداً في الفارق المقارن بين الفصلين.
سوريا بلد غامض، مشاكس، صعب الانقياد، يبدو بشكل دائم لغزاً أشبه بالطلاسم للسياسيين الغربيين. كانت سوريا موقع تنافس بين مصر، والعراق، والهاشميين في الأردن، وآل سعود في الخليج، تؤثر فيهم، ويؤثرون بها، ففيها انقلب الجيش على النظام القائم عام 1949 بسبب نكبة احتلال فلسطين، وتأسيس دولة الكيان الصهيوني عام 1948، فأصبح ذلك سنّة في الإقليم، وشاعت الانقلابات على أنظمة الحكم، وانتشرت الثورات «العسكرية» في الدول المحيطة تطلب رؤوس حكامها التقليديين. وفيها دخل أول نائب شيوعي في الشرق إلى البرلمان، ومنها صدر أكبر رصيد ثقافي عروبي، قدمته سورية عبر الأحزاب القومية، فطالما اعتبر السوريون بلدهم منطقة «مؤقتة» في طريق بلد أوسع متشكل على طريق وحدة عربية كبرى. كانوا يعتبرونه أمراً واقعاً، مقبول مؤقتاً. ويعود هذا الشعور لإرث قديم شكلته سوريا الكبرى، ويرجع، في مصدره القريب، للحركة القومية العربية، التي حاربت «التتريك» في فترة الحكم العثماني، حيث شكلت بلاد الشام مركز المقاومة، والأحلام العربية في التخلص من النير العثماني. كان ظاهراً أن القوميين، وهم يشاهدون سوريا تصبح جذعاً بدون أطراف، بعد تقسيمها في عام 1922 إلى أربعة بلدان، وجزء سليب، أصبح هدفهم الرئيسي الانتصار للقومية العربية، وهاجسهم الوحدة العربية.
بعد فشل فرنسا وبريطانيا في عدوان السويس على مصر، وبروز «الخطر» الشيوعي في الدول العربية، أعلنت أميركا مبدأ «أيزنهاور» لوقف النفوذ الشيوعي، ودعم الدول الشرق أوسطية التي تتهددها الأفكار الشيوعية، وسمح باستخدام القوات العسكرية الأميركية، وقام وزير الخارجية، دالس، بإنشاء تحالفات لصدِّ تقدّم الشيوعية إلى بلدان الشرق والعالم العربي.
بدا عام 1957 وكأن سوريا تغير مسارها، من سيطرة الدول الغربية، إلى دولة «شيوعية»، والحقيقة أن القوميين في سوريا كانوا قد كرهوا السيطرة الغربية الطويلة على البلد، وكان شعورهم القومي عارماً، وكان ثمة تغيراً ملحوظاً يحدث في تاريخ سوريا، في ما دعي «أزمة صيف 1957» - بحسب رواية باتريك سيل، في كتابه الصراع على سوريا [The Struggle for Syria1945-1958].
كانت الانتخابات البرلمانية السورية، بنتائجها النزيهة، قبل ذلك قد أكدت الأمور التالية : - فوز البعث كممثل عن غالبية الجماهير.
- خسارة حزب الشعب أنهت مشروع الهلال الخصيب والاتحاد مع العراق، وأفقدت الأمل لمؤيدي المشروع في النجاح بالطرق السلمية.
- معاداة أميركا جاءت بخالد بكداش وخالد العظم ومعروف الدواليبي، وصورت الصحف الأميركية أن سوريا صارت زعيمة الشيوعية في الشرق.
- تكريس الحساسية الوطنية، والاستقلال الوطني، ورفض كل أنواع الأحلاف مع الغرب.
- التطلع نحو مصر عبد الناصر التي كانت توقّع الاتفاقية مع بريطانيا للجلاء عن مصر.
فقام خالد العظم، وزير الدفاع، بإجراء معاهدة اقتصادية طويلة الأمد مع الاتحاد السوفياتي، وتمّ طرد ثلاثة دبلوماسيين أميركيين (الملحق العسكري روبرت مالوي، والسكرتير هوارد ستون، ونائب القنصل فرانسيس جيتون) بتهمة التآمر لإسقاط الحكم، (وكان هؤلاء أول دبلوماسيين أميركيين توجه لهم تهمة التآمر للإطاحة بحكومة عربية منذ الحرب العالمية الثانية)، وأجريت تغييرات في الرؤوس العسكرية السورية المقربة من واشنطن، وتمّ استبدالهم بضبّاط مقربين من السوفيات، فجنّ جنون أميركا، وأعلنت أنها ستطبق «مبدأ أيزنهاور» في ردّ العدوان عن سوريا من الخطر الشيوعي.
كانت تركيا مندريس في عام 1957 قد أصبحت «جندرمة الإمبريالية»، ووقعت تحت السيطرة الأميركية، وأصبحت تنفذ أوامرها، وتهدد سوريا بالتدخل بعد الاشتراك مع أميركا، والسعودية، والأردن، والعراق، ولبنان، الموافقون على مبدأ أيزنهاور، حيث بدأت تركيا، من منتصف الخمسينات، تهدد بدخول سوريا عسكرياً، إذا سيطر عليه السوفيات الشيوعيون، أمّا الملك حسين فكان يدمغ بتهمة الخيانة لاستقباله القوات والأسلحة الأميركية لضرب سورية، بالاتفاق مع الأميركان.
دُعمت «حكومة سوريا الحرة» في العراق، التي أنشئت لمناكفة الشيشكلي، وإسقاط حكمه، ثمّ تحوّلت لأداة في يد الحلف الجديد، وانقسم الواعون من السياسيين السوريين إلى قسمين واضحين: قسم يخشى من تسلم الشيوعيين الحكم في سورية، وقسم يعتبر أن الخطر الكبير يكمن في الهجوم الغربي ـ الأميركي عبر قوات تركية.
كان الردّ السوري مزيداً من التمسك بالثوابت الوطنية، والدعوة للوحدة والتساوق الإيجابي مع المعسكر الاشتراكي، وأدى ذلك لتقوية الممسكين بالحكم بدل إضعافهم:
- هدّد الاتحاد السوفياتي بأنّ لسوريا أصدقاء، وأجرى تجارب على صواريخ عابرة للقارات لأوّل مرّة.
- أدرك الملك سعود أنه في الجانب الخاسر ضد كل المظاهر القومية العربية، التي اجتاحت المنطقة بفعل جمال عبدالناصر والسوريين القوميين، فقام بصلح ضمّ الأطراف (لبنان، الأردن، والعراق) وصرّح هو والأمير فيصل أن: «سوريا لا تشكل أي تهديد لجيرانها، ويحقّ لها أن تمارس قراراتها الوطنية باستقلالية»، لتظهر بعدئذ خلاصة التغطية الأميركية لهذه الاستدارة: أن الدول المحيطة بسوريا (لبنان، الأردن، السعودية، العراق، وتركيا) لا تشعر بالخوف، أو الخطر منها، وأن الوضع السياسي فيها بدأ بالاستقرار والتوطّد.
تقاربت سوريا مع مصر، عبر زيارات متكررة في العام نفسه، قام بها الرئيس شكري القوتلي، والقادة العسكريون، عبد الحميد السراج والفريق البزري، حيث تمّ العمل للاتحاد الفيدرالي مع مصر، وإدخال قوات مصرية إلى سوريا، بمواجهة التهديدات التركية، وهكذا انتهت الأزمة، في حين رفضت سوريا مصالحة الملك سعود، وحدث الاندفاع السوري إلى مصر، والاتحاد السوفياتي.

سوريا بلد غامض،
مشاكس، صعب الانقياد، يبدو لغزاً أشبه بالطلاسم للسياسيين الغربيين

اليوم اضطرت سوريا إلى تلقي الدعم الاستراتيجي، الذي منع سقوطها، من محورها المقاوم، ومن إيران بشكل خاص، وزادت في الانخراط في العلاقة معها، بعد أن حافظت على مسافة توازن معتبرة منها، وأحياناً كانت لها مصالحها المتباينة، خلال السنوات التي سبقت أزمتها الراهنة، وتجلّت بمواقف متضاربة، أو مختلفة في العراق (عبر دعمها المقاومة العراقية، ثمّ عبر تبنّي مرشح انتخابي مختلف) والبحرين، والحرب السعودية الحوثية الأولى (عبر دعمها لسيادة الدول العربية في مواجهة أي احتجاجات أو مناوشات تنتهك حدودها)، وفي الانخراط الطويل «حسن النية» مع تركيا بعلاقات مميّزة لفترة تقارب الخمس سنوات.
وسواء تراجع الملك السعودي الحالي، سلمان بن عبد العزيز، وابنه، كما فعل سلفه، الملك سعود، وتبعه كلّ الرّكب المتآمر على سوريا (انكفاء التركي إلى داخله قبل تهاوي دوره. تراجع الكيان الصهيوني. تخلي الأميركي عن روايته الملفقة) فإن النتيجة تكاد تكون متشابهة في كلتي الحالتين عند رد سوريا على التلفيق والتحريض، أو تأليب الجحافل للهجوم عليها بتهمة انتمائها إلى الشيوعية، أو الشيعية: ممارسة القيم والثوابت الوطنية والقومية بطريقة معاندة لا تقبل الكسر، ومهما كانت العقبات والتبعات وتجلى ذلك في:
- سابقاً بالاتجاه إلى مصر عبدالناصر، وتشكيل أوّل وحدة عربية باسم الجمهورية العربية المتحدة، وتجذّر العلاقات السوفياتية السورية لسنوات طويلة.
- واليوم تقوم سوريا بزيادة التمسك بقرارها المستقل، وبقيمها الوطنية والقومية الحضارية المقاومة، التي تدافع عن الحقوق العربية في وجه تيارات الغطرسة الغربية، وأتباعها وأذيالها ومحمياتها في المنطقة، وتفشل مخططاتها في التقسيم الجديد للمنطقة، وتطبيق كروكيات الخرائط المشبوهة على البلدان العربية، وتضطر في سبيل ذلك لدفع الثمن الباهظ في معمودية دم ونار غير مسبوقة في تاريخها.
* كاتب سوري