إيلي شلهوبيبدو واضحاً أنّ باراك أوباما كثير الانشغال هذه الأيام. اهتماماته منصبّة على قضية تتجاوز في أهميتها الملفات التقليدية اليومية من أزمة اقتصادية ورعاية صحية، بل حتى إيران وعملية السلام و«المنافسة» مع الصين. هو يلاحق حلماً، كان قد كشف عنه في براغ في مثل هذه الأيام من العام الماضي، عن إقامة عالم خال من الأسلحة النووية. يا لوداعته. قمة نووية من المقرّر أن يستضيفها في واشنطن الأسبوع المقبل، هدفها تقليص خطر الانتشار النووي. توقيع اتفاقية «ستارت» الجديدة (الخميس) مع روسيا. الإعلان (قبلها بيومين ـــــ الثلاثاء) عن العقيدة النووية الأميركية الجديدة، الوثيقة الثالثة من نوعها منذ انتهاء الحرب الباردة. أحداث تجري تحت سماء ترفرف فيها حمامات بيضاء، يقف في خلالها أوباما وحول رأسه هالة تشبه تلك التي تحيط بالملائكة. هذا طبعاً ما تحاول الإدارة الأميركية تصويره، ومعها الإعلام الغربي عموماً. لكن الواقع عكس ذلك تماماً، يصل حد خديعة (شهد التاريخ الأميركي الكثير منها) ترقى إلى محاولة لوضع الأسس لاستعادة أميركا وضع الإمبراطورية الوحيدة في العالم.
ما يظهر من جبل الجليد النووي الأميركي يدعو إلى الإشادة: خفض للترسانتين الأميركية والروسية (وتمثّلان نحو 90 في المئة من الأسلحة النووية في العالم) بمعدل الثلث مع تعهّد بالسعي إلى مزيد من التقليص (ستارت). تعهّد بعدم استخدام أسلحة كهذه ضد الدول التي لا تمتلكها شرط أن تكون موقّعة معاهدة حظر الانتشار النووي، وملتزمة بنودها (يعني استثناء إيران وكوريا الشمالية). تعهّد بعدم اللجوء إلى الخيار الذري رداً على هجوم تقليدي أو اعتداء كيميائي أو بيولوجي (لطالما ساوت أميركا بين جميع أسلحة الدمار الشامل). تعهّد بعدم تطوير رؤوس نووية جديدة. تعهّد بحوار عالي المستوى مع موسكو وبكين باتجاه مزيد من الشفافية وتكريس الاستقرار. تعهّد بتقليص دور الأسلحة النووية في استراتيجية الأمن القومي الأميركي لمصلحة الأسلحة التقليدية. تعهّد بوقف التجارب النووية والسعي نحو معاهدة دولية تكرّس هذا الأمر. تعهّد بالعمل على جعل «الردع» الهدف الوحيد من الترسانة النووية (أبقت خيار الضربة الأولى).
لكن ما بقي من هذا الجبل يثير القلق: ليس سرّاً أن العقيدة النووية الجديدة تستهدف وضع حد لـ«طريقة تفكير الحرب الباردة» التي كانت ترى أن الخطر الأساس يتأتّى من هجوم نووي روسي أو صيني. أدوات ذاك الزمن (الردع النووي ومعه كلفته المرتفعة) ما عادت تنفع مع الأخطار الجديدة، التي ترى أميركا أوباما أنها تتأتّى من هجوم إرهابي نووي، ومن انتشار الأسلحة الذرية. بل أكثر من ذلك. هي ترى أن امتلاك ترسانة نووية هجومية يحدّ من تفوّقها، في ظل امتلاك روسيا ترسانة مشابهة (توازن في القوة في هذا المكان يجب إزالته، رغم الفارق في حال كلّ من الترسانتين).
لذلك، قرر العم سام، على ما بات واضحاً، استغلال تفوّق ترسانته من الأسلحة التقليدية، والعمل على فرض واقع تصبح في خلاله أميركا القوة الوحيدة القادرة على توجيه ضربة إلى أيّ مكان على الكرة الأرضية بأسلحة تقليدية تنقلها أدوات نقل عسكرية استراتيجية.
الدلائل على ذلك كثيرة: رفض المسّ بأنظمة الدفاع ضد الصواريخ الاستراتيجية على الأراضي الأميركية، واقتصار الخفض على الأسلحة الهجومية. وتطوير أنظمة كهذه يهدّد بجعل الترسانة النووية الروسية المتهالكة (كلفة صيانة ضخمة) بلا جدوى. رفض مناقشة أنظمة الدفاع التي تنوي أميركا نشرها في أوروبا بما يعطّل فعالية الترسانة الروسية المتوسطة والقصيرة المدى. الإصرار الأميركي على الاحتفاظ بالنظام الثلاثي (الصواريخ البالستية العابرة للقارات وتلك المحمّلة على الغواصات وعلى القاذفات الاستراتيجية). الدعوة التي تضمّنتها العقيدة الجديدة إلى تطوير البنية التحتية الخاصة بالنووي، المادية والعلمية والبشرية، بما يضمن استمرار التفوق الأميركي في هذا المضمار.
بهذا المعنى تصبح مبرّرة الاتصالات الهاتفية الـ14 التي أجراها أوباما مع مدفيديف لضمان توقيع المعاهدة (ليس المحرك فقط رغبة أوباما في تقارب مع روسيا لضمان تعاونها في أكثر من ملف في مقدمتها إيران وأفغانستان). ويصبح مفهوماً التعفّف عن استخدام السلاح النووي. وتصبح منطقية المعلومات التي تتحدث عن استياء بوتين وتلويح إيفانوف بإمكان الانسحاب من «ستارت»، وخاصةً إذا ما تذكّرنا أن العقيدة العسكرية الروسية ترفع منسوب الاعتماد على السلاح النووي في حماية الأمن القومي وضمان النفوذ الروسي، في ظل ترهّل الصناعة العسكرية الروسية التي تحاول الوقوف على أقدامها مجدداً.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى حال إيران وكوريا الشمالية. الجديد في المقاربة الأميركية لهما كان في وصفهما بـ«خوارج» (عن المجتمع الدولي)، لا «دولتين مارقتين» كما كانتا أيام بوش، في محاولة لتطوير مقاربة هذا الأخير بتدويل جهود احتواء الطموح النووي لطهران وبيونغ يانغ. أمّا إبقاء سيف الضربة النووية مصلتاً عليهما، فلن يحقّق سوى التفاف شعبي على نظاميهما مع ضوء أخضر للمضيّ في طموحاتهما الذريّة إلى الرمق الأخير.