تُدرج في لبنان هذه الأيام، حتى في أوساط يساريّة، حملات ضد المخدّرات. إعلانات وبيانات وتوقيعات ضد المخدّرات. وكالعادة، يجد رجال الدين (لا نساء للدين في بلادنا) الفرصة سانحة للإدلاء بدلوهم وعظاً وإرشاداً ونصحاً («برز الثعلب يوماً، في شعار الواعظين»). ومنهم من يزيد: مقابل مبلغ من المال، يستطيع أن يشفي الابن المدلّل من الإدمان. ومقابل مباركة عليائيّة، «يُشفى» المرء من فرادته ومن خصائصه ومن أهوائه
أسعد أبو خليل*
ينبع مفهوم الفضيلة من السياق التاريخي لفرض المشيئة السلطويّة (السياسيّة الدينيّة) على العامّة. والفضيلة مفهوم محض ديني (وطبقي) لقي تجاوبه في كنف الدولة المُحتضنة (المُتحالفة مع سلطات الدين). كتبٌ تحدّد ما هو مرغوب ومنبوذ، وما هو محرّم وما هو مُحلّل. يوسف قرضاوي وضع كتاباً راج كثيراً عن الحلال والحرام في الإسلام. والمحاكم الكنسيّة رسمت حدود المُباح والممنوع (لعلّ فخري كريم استقى مفهومه عن «النقد المُباح» في دعواه ضد الرفيق سماح إدريس من محاكم التفتيش في القرون الوسطى). ومن الخطأ الاستشراقي عزو أنساق من القمع الاجتماعي والسياسي في بلادنا إلى أصول عربيّة ثقافيّة أو دينيّة إسلاميّة. هناك أصول ومنابع غربيّة لأنساق من القمع في بلادنا حتى لو ارتدت أزياء محليّة. هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ليست إلا ترجمة لـ«شرطة الآداب» في الدول الغربيّة. وشرطة الآداب في أميركا لها صولات وجولات في القرن العشرين لفرض (لا)أخلاقيّة مُحافظة ومُتزمّتة ودينيّة، توائماً مع مصلحة الكنيسة. هي التي كانت تفرض أنماطاً

ينسى اليسار أنّه يتّفق مع حزب الله وحماس حول المقاومة ويختلف معهما على كلّ شيء آخر
من العيش ومن التزمّت الذي يصيب المرأة أكثر من الرجل.
ليس الموضوع هو في نبذ الفضيلة بل في مُناقشة معناها ومدلولات فرضها. المطران إلياس عودة (الذي لا ينتمي رسميّاً إلى القوات اللبنانيّة) خطب في عيد الفصح (سيأتي يوم تكون فيه كل أيّام السنة في لبنان مُكرّسة لتكريم الأديان ورجال الدين والقدّيسين والمشعوذين) وندّد بـ«الرذيلة». وكان وزير الإعلام اللبناني (وهو وزير ثقافة سابق) يهزّ رأسه طرباً لتنديد المطران بـ«الرذيلة». لو كان وزير الثقافة حريصاً على الحريّات الشخصيّة، لغادر المكان على الفور، غير أن توقّع اتخاذ طارق متري مواقف مبدئيّة هو مثل انتظار مواقف في تأييد المقاومة الفلسطينيّة من محمد دحلان. لم يحدّد المطران عودة ما عناه بالرذيلة، لكن على اللبيب (واللبيبة) الفهم.
ليس مُنكراً أن يكون للمرء موقف من الفضيلة. المُستنكر أن يكون للدولة موقف رسمي من الفضيلة أو من الرذيلة، وخصوصاً أن في لبنان أدياناً ومذاهب ومشارب متعدّدة. قد يتفق أهل الدين عندنا على تعريف إجماعي (توافقي) للفضيلة، مثلما اتفقوا على عيد البشارة (باستثناء حزب التحرير الذي سئم الأعياد ما لم تتوافق مع رؤيته الدينيّة). لا تستطيع الدولة أن تأخذ موقفاً من الفضيلة ما لم تنحَز إلى دين أو مذهب معيّن، أو إلى تفسير ديني معيّن: عليها أن تختار في مسألة الكحول ومسألة تقييد الحريّات الجنسيّة ومسألة ما يجوز تدخينه وما لا يجوز، بالإضافة إلى نوع التقييد الذي يُفرض على المرأة. والمرأة هي دائماً الضحيّة الأولى لحروب الفضيلة، فيما يكون الفقراء الضحيّة الدائمة لحروب الفضيلة. متى قطعت السلطات السعوديّة رأس رجل ثري، ومتى رجمت امرأة ثريّة، ومتى ألقت السلطات اللبنانيّة القبض على مثليّ غني، لا فقير؟
وحروب الفضيلة أو حروب ما يُسمّى «مكافحة الرذيلة» (وهي غير فرقة المكافحة التي أسّسها جوني عبده الذي حوّل منزله في 1982 إلى شبه بيت ضيافة لأرييل شارون)، هي حروب لفرض قيود ذكوريّة على المرأة. قوانين الفضيلة وإجراءاتها ترتبط داخليّاً بمفهوم «الشرف» (الذي يُراق بالقوّة العمياء على جوانبه الدم منعاً لأي التباس أو احتباس حراري). وأفضل من شرح طبيعة العنصريّة الذكوريّة ضد المرأة دون أن يدري، طبعاً في مفهوم الشرف هو هيغل (يُقال إن سعد الحريري يقرأ هيغل في أوقات فراغه، هل هذا صحيح؟ ويُقال إنه حجّة في الأدب الروسي) في كتابه «فلسفة الحق». فهو يقول في القسم الثالث، «الحياة الأخلاقيّة، العائلة (إضافة)»، رقم 164 من الكتاب: «يجب ملاحظة أن الفتاة في سياق العلاقات الجنسيّة تفقد شرفها عندما تُسلِّم جسدَها. أما الرجل، فالحالة معاكسة لأن له نشاطاً أخلاقياً خارج العائلة». (يجب مراجعة كتاب «التفسيرات النسويّة لهيغل»، وخصوصاً القسم الذي كتبته سيلا بن حبيب لفهم الأبعاد الذكوريّة في فلسفة هيغل). ويختصر هيغل جملة من الأخلاقيّات الذكوريّة التي دفعت برجل لبنان لجلب رأس فتاة إلى قصر الأمير مجيد أرسلان في خلدة قبل الحرب الأهليّة للزهو بـ«غسل العار». وتحتفل القوانين العربيّة بحق الرجل في قتل المرأة ومعاقبتها باسم الشرف والناموس والأخلاقيّات. وهناك من يظنّ أيضاً أن تلك القوانين تنبع من تراث ديني عربي أو إسلامي، فيما هي (مثل قوانين منع الوصال المُثلي كما شرح الرفيق جوزف مسعد في كتابه «اشتهاء العرب») مُستقاة من قوانين غربيّة تحضّ على احترام تعاليم كنسيّة. وجرائم الشرف لا علاقة لها بالإسلام بل هي نتيجة للثقافة الذكوريّة السائدة في منطقة البحر المتوسّط (يمكن مراجعة كتاب «جمهوريّة أولاد العمّ» لجرمين تليون، وهو غير مترجم إلى العربيّة). وقوانين المنع والتحرّي في الحياة الشخصيّة واصطلاح أو اختراع مسالك «الشذوذ» والريبة تدين بالكثير لتقاليد المنع والضبط والتقييد التي شغلت ميشيل فوكو.
الحديث عن الفضيلة ضروري، ليس فقط لأن المنطقة العربيّة تخضع اليوم لنفوذ سلطات دينيّة (حكوميّة وحزبيّة، سلطويّة مفروضة وطوعيّة من جانب العامّة، سنيّة وشيعيّة)، بل لأن خطاب الفضيلة يتسرّب حتى للأحزاب العلمانيّة واليساريّة وذلك من باب الشعبويّة «الأهليّة»، أي إرضاء الأهل في شتى الطوائف من الذين يريدون أن يقيّدوا حريّة أولادهم، وتقييد حريّة الأولاد وقولبتهم أصناماً وأدوات ومقلّدين جزء لا يتجزّأ من تقاليد العائلة. والأحزاب اليساريّة ربما تعاني مضاعفات تحالفها الظرفي مع بعض الحركات الدينيّة من دون أن تدري، ومن دون أن تذكّر نفسها بأنها تتفق مثلاً مع حزب الله ومع حماس على مقاومة إسرائيل، وتختلف معهما على كل شيء آخر.
ولقد لفتني أثناء متابعتي خطاب حسن نصر الله على شاشة «المنار» كثرة تكرار إعلان أعدّته الجامعة العربيّة (أي الأمير نايف ومؤسّسة القمع الوهّابي) لإعلانات تحذّر الشعوب العربيّة من خطر الإنترنت و«الفايسبوك» و«التشات رومز». وهذا الإعلان يذكّر إمّا بالحركة «اللودّيّة» (وهي حركة عمّاليّة بريطانيّة في القرن التاسع عشر في صناعة النسيج، وكانت تعبّر عن غضبها ضد تحوّلات الثورة الصناعيّة من خلال تحطيم الآلات والنفور من البداية الجينيّة للتكنولوجيا الحديثة، أو بالتزمّت الوهّابي الذي لم ير في الآلة إلا «رجساً» من الشيطان (وهو رجيم، مثله مثل المنكوبين من المحكومين في مملكة القهر الوهّابي). والإنترنت و«الفايسبوك» هما مثل اللغة: يصلح استخدامهما لغايات متعدّدة، منها الصالح ومنها الطالح. أو مثل استخدام الطائرة: وهي وسيلة نقل فعّالة وأساسيّة، ويجب عدم نبذ الطائرة لأن «القاعدة» استعملتها لتفجير مبانٍ آهلة بالسكّان. والذين أعدّوا ذلك الإعلان عن خطر الإنترنت نسوا أن حكومة الكيان الغاصب تذمّرت من الحركة النشطة ضدّها على الفايسبوك أثناء العدوان على غزّة.
يسود في لبنان هذه الأيّام حديث متعاظم في أوساط الحركات الدينيّة وفي بعض أوساط اليسار عن «مكافحة المخدّرات». والخشية أن يستورد لبنان من أميركا مرّة أخرى معركة لا ناقة لنا فيها ولا جمل. ومكافحة المخدّرات معركة أميركيّة مفروضة على لبنان. لماذا تحتلّ هذه المعركة هذه الأهميّة، نسأل؟ ولندرس طبيعة حرب «الفضيلة» ضد المخدّرات على النسق الأميركي، وهي معركة فرضتها أميركا ليس فقط داخل حدودها بل أيضاً في دول أميركا اللاتينيّة قاطبة. نرى أن المعركة كرّست حرباً على الفقراء والمعوزين والثوّار، كما انعكست تأييداً ودعماً لقطاعات عسكريّة شبه فاشيّة تطوّعت لتنفيذ مهمات الحرب على المخدّرات، أو ما تسمّيه أميركا الحرب على المخدّرات. والمخدّرات وعقوباتها على أنواع في أميركا: تجد أن العقوبة ضد من يحمل مادة «الكراك» أقسى بكثير من عقوبة «الكوكايين» (والأول أرخص وسائد بين الفقراء، فيما الثاني أغلى ثمناً وهو سائد في طبقة الأثرياء). أي إن التسطيل والهلوسة و«الرحيل» وقف، مثل الثروة والسلطة، على الأثرياء. وطبيعة الدعاية عن المخدّرات تفتقر إلى الحقائق العلميّة. فالكحول مثلاً أكثر ضرراً بكثير من الحشيشة والماريوانا، وخصوصاً أن الكثير من حوادث السير القاتلة تسبّبها القيادة المخمورة. وماذا عن ضرر التنباك، مُعسّلاً كان أم غير مُعسّل؟ لكن الكحول تصل إلى بلادنا عن طريق الشركات الأميركيّة التي تروّج لها من دون قيود حكوميّة. ولو كانت مخدّرات بلادنا وحشائشها مُستوردة من أميركا، لقامت الشركات الأميركيّة بالترويج لحسنات المخدّرات وفضائلها، كما كانت تروّج (ولا تزال) من دون حسيب للسجائر في أوساط شبابنا وأطفالنا. أليست قنابل إسرائيل وشركاتها غير المُقاطَعة في لبنان أكثر ضرراً على الصحّة من التسطيل؟
ومن قال إن لبنان يعاني آفة المخدّرات أكثر مما يعاني آفات الفقر والاحتلال والجور الطبقي ومن آفة فؤاد السنيورة؟ وهناك، مثل وئام وهّاب، من يربط بين الانتشار المزعوم للمخدّرات وخطة شرّيرة ذات أصابع صهيونيّة، مع أن التاريخ العربي زاخر بحكايا عن تمتّع الشعوب العربيّة بمختلف أنواع التسلية والترفيه، الضارة والنافعة، قبل زرع الكيان الغاصب فوق صدورنا. ودخل الجنرال عون إلى المعركة مُحذّراً من «إغراء» الشباب بالمخدّرات، كما أن سقراط اتُّهم بإغواء الشباب وإفساد عقولهم. ويروي المؤرخان «غيب» و«بوين» في كتابهما المهم «المجتمع الإسلامي والغرب: دراسة في تأثير الحضارة الغربيّة على الثقافة الإسلاميّة في الشرق الأدنى» أن القهوة وشربها انتشرا في ربوعنا في القرن السادس عشر وأن الفقهاء سارعوا، كعادتهم في تحريم اللذات، إلى تحريمهما، لكن إجماع العامّة نقض إجماع الفقهاء في هذه الحالة، وباتت القهوة جزءاً لا يتجزأ من حياة الشرق العربي. وللقهوة مضار أيضاً طبعاً، وخصوصاً في مقاهي الـ«ستاربكس» التي يدمنها مَن لا يكترث لأمر مقاطعة إسرائيل ومصالحها في لبنان، لأن «ستاربكس» تزيد نسبة الكافيين أضعاف نسبها العاديّة من أجل جذب الزبائن عبر الإدمان الكيميائي.
وتريد الحكومة الأميركيّة، ومن يردّد مطالبها ببغائيّاً في بلادنا، أن تبدّل زراعة الحشيشة بزراعة البطاطا إمعاناً في إفقار منطقة فقيرة في لبنان. ثم إن معظم إنتاج لبنان من المخدّرات ذات الجودة العالية يذهب للتصدير ويتمتّع به المدمنون (والمدمنات) والمتذوّقون (والمتذوقات) في الغرب، لا في الشرق. أي إنها أولويّة غربيّة، لا شرقيّة. أما الحديث عن انتشار فظيع للمخدّرات في الضاحية وفي غيرها من المناطق فهذا حديث لا أسس علميّة له أو قرائن، وإذا كان صحيحاً فيحتاج الأمر إلى معالجة غير أمنيّة أو دراميّة. ثم هل انتشار المخدّرات في لبنان أخطر من شبكات تجسّس العدو الإسرائيلي؟ والحكومة الأميركيّة تستعمل «الحروب» ضد المخدّرات من أجل دعم القطاعات العسكريّة المُوالية لها (وخصوصاً تلك التي تتطوّع لنبذ أنصار المقاومة من صفوفها من أجل حفنة من الدولارات في اتفاقات مُوقّعة من دون أن تكون اتفاقات).
ومسألة المخدرات ومعالجة مدمنيها ليست خاضعة لإجماع بين الخبراء في الغرب. فالولايات المتحدة، مثلاً، تطبّق نظام الزجر والقمع والعقوبات القاسية حتى في تعاطي «الماريوانا» وبيعها (والتي لا دليل علمياً بعد على إدمان كيمائي لها، حتى أنها مشرّعة طبيّاً هنا في كاليفورنيا للتخفيف من آلام المصابين بأمراض خطيرة). الولايات المتحدة، التي تختلف عن الدول الغربيّة في شدة تأثير الدين فيها (يقول رونالد إنغلهاردت في دراساته المقارنة عن القيم حول العالم، والتي تضمّنها كتابه «قيم بشريّة»، إن الولايات المتحدة هي في مصاف الدول النامية من حيث تأثير الدين فيها) لا تؤمن بالطرق العلميّة والنفسيّة في معالجة مشاكل الإدمان. في الدول الأوروبيّة يعتمدون طرقاً أكثر نجاعة. سويسرا، مثلاً، تقدّم الهيرويين صافياً لمدمنيه، وهم يتلقّون حقناً نظيفة في عيادات تديرها الدولة، مما يقلّل من فرص انتقال الأمراض وبيع أنواع مغشوشة من المادة الضارّة.
لكن كلام المطران عودة عن الفضيلة وتنديده بأفعال «الرذيلة» يستدعي كلاماً توضيحيّاً وتحليليّاً. نستطيع أن نستعين بدراسة سلالة الأخلاقيّات لنيتشه وأن نقول إن هناك مصالح طبقيّة واجتماعيّة وراء نشر أخلاقيّات المجتمع ونشر الفضيلة. والدراسات الجديدة عن المجتمع «الفكتوري» البريطاني تظهر أن النخبة كانت تفرض تزمّتاً فظيعاً، فيما هي عاشت حرّة من أية قيود وعانت أمراضاً زهريّة لم تأتها من الزهد. (يصحّ الوصف هذا على التزمّت الوهابي المفروض الذي لا يصيب نمط حياة أمراء آل سعود). ونسأل من يحدّد الفضيلة؟ تحديد الكنيسة، أو الدين، للفضيلة جرّ ويلات عبر التاريخ وساهم في تكثيف القمع في المجتمع. كتب التاريخ لا تتحدّث بإفاضة مثلاً عن الحروب ضد الساحرات، وهي لم تكن أكثر من حرب ضد النساء المتحرّرات والطليقات والمتمرّدات. لا نعلم كم من النساء قضين في تلك الحروب في القرون الوسطى، لكن التقديرات الحاليّة تتحدّث عن أكثر من مليون امرأة ضحيّة.
النفاق سمة من فرض الحكم أو السلطات الدينيّة للفضيلة. كانت سياسات الفضيلة التي أدّت إلى منع الخمور لفترة في أميركا أوائل القرن العشرين متوازية مع ممارسات ما تعتبره الحكومة والكنيسة رذيلة. فأميركا تفرض، مثلاً، قيوداً ورقابة تصنيفات على الأفلام أكثر من أوروبا، إلا أنّها أكثر دولة مُنتجة لكل أنواع «البورنو»، بما فيه «البورنو» الذي يتضمّن ما يُعاقب عليه القانون في كلّ دول العالم. وفي بلادنا، مثلاً، تعلو أصوات الفضيلة بينما يقوم اقتصاد لبنان في حقبة ما بعد الحرب على سياسة الدعارة وخدمة الساعين وراء اللذة من زوّار لبنان. وقوانين الفضيلة في لبنان تعاقب المومسات، ولا تعاقب الرجال الذين يسعون وراء لذتهم مع مومسات، ولا حتى الذين يعتدون على المومسات (تتعرّض المومس في أميركا لنحو 27 حالة اغتصاب في حياتها). في أسوج، قرّرت الحكومة تحريم معاقبة بائعي «الجنس»، وسنّت قوانين لتجريم الشارين.
ولا يمكن قبول منطق «الفضيلة» و«الرذيلة» من دون قبول ضمني لدور الزاجر والمُعاقِب. وهنا يدخل في لبنان دور منسجم للدولة والدين من أجل تطبيق الفضيلة. وللكنيسة والجامع دور متعاظم في بلد يزداد فيه نفوذ رجال الدين. وأصبح للمذاهب الثلاثة اجتماعات دوريّة يُصدر فيها المطارنة أو الشيوخ بيانات تتصدّى لأحداث داخليّة وعالميّة، دون أن تنسى الصراعات الحدوديّة في أميركا الجنوبيّة. وهذه المجالس ستحتكر أية حرب باسم الفضيلة وستفرض قيوداً إضافيّة على حريّة الفرد الشخصيّة والجنسيّة وخصوصاً في ما يتعلّق بحريّة المرأة.
خاض الوزير المهزلة، إلياس المرّ، حرباً شعواء ضد من سماهم «عَبَدة الشيطان» في سنوات حقبة سيطرة النظام السوري في لبنان، وظهر على شاشة التلفزيون للحديث المستفيض عن خطرهم، وآزره في هذه الحملة قوى كنسيّة نافذة. وتطلع القوى الطائفيّة في الدولة وفي المؤسّسات الدينيّة بنوبات من الحملات الداعية إلى الفضيلة (والعبارة وردت في برنامج حزب الله الانتخابي). والحكم السعودي هو أفضل نموذج لتطبيق مفهوم ديني للفضيلة، وليس اعتبار السعوديّة من أسوأ الدول في العالم على صعيد الحريّة الفرديّة إلا نتيجة منطقيّة وطبيعيّة لتبنّي الدولة مشروع فرض نموذج معين (وقاسٍ جداً) للفضيلة.
ليست حملات الفضيلة جديدة في لبنان أو في العالم العربي. وهي تصعد وتهبط بناءً على: 1) صعود الحركات الدينيّة وهبوطها. 2) بناءً على طموحات سياسي مغمور يسعى وراء الشهرة من خلال دغدغة مشاعر القطاع المتزمّت في المجتمع. وحملات الفضيلة قويت في الثمانينيات عندما شنّت ميليشيات طائفيّة إسلاميّة حملات ورع وتُقى وفرضت رؤيتها على المجتمع، وترافقت تلك الحملات مع حملة قتل وتنكيل بالشيوعيّين.

لو كانت مخدّرات بلادنا مستوردة من أميركا لروّجت الشركات الأميركيّة لحسنات المخدرات وفضائلها
لا علاقة لليسار بحملات الفضيلة، ولا علاقة له بمكافحة المخدّرات، أو يجب ألا تكون له علاقة. اليسار يحتاج أن يكون صوت الفرد الرافض للخضوع لمفهوم واحد للفضيلة. هذا لا يعني أن مفهوم الفضيلة يجب أن ينتفي، بل يجب الإصرار على نقض ونفي الحاجة لتعريف حكومي أو «كنسي» للفضيلة. اليسار يجب أن يصرّ على أن الفضيلة مسألة تخضع للهوى الشخصي فقط، ويجب ألا يخضع المرء لمعايير تُفرض عليه (وخصوصاً عليها). اليسار، بدلاً من الانخراط في معركة مكافحة المخدرات ونشر الفضيلة، أولى به أن يعرّف الفضيلة طبقيّاً حيث يصبح الجور الطبقي والقمع الرأسمالي أعلى مراحل اللاأخلاقيّة. المعركة ضد المخدّرات هي معركة ذات منحى ومحتوى طبقي: الدولة دائماً تطبّق العقوبة على الفقراء، لا على الأثرياء. وعندما ألقت أجهزة الأمن في مطار بيروت القبض على ابن أمير سعودي نافذ، لم يُسجن ابن الأمير لحظة واحدة. رُحّل على عجل إلى السعوديّة. والدولة في لبنان تطبّق العقوبات على الفقراء وحدهم: أين هم الأغنياء من المجرمين في سجون لبنان؟
إن انخراط اليسار في حملات نشر الفضيلة سيؤدّي به حكماً إلى الوقوع ضحيّة لحملات نشر الفضيلة نفسها. هذه معركة لا يمكن إلا أن تتمثّل فيها الحركات الدينيّة في موقع الصدارة. بعض المخدّرات قاتلة، والكحول والتنباك ضارّان. ولكن يجب ألا نؤيّد دور الدولة أو المؤسّسة الدينيّة كحاضنة أطفال للمواطنين (وخصوصاً للمواطنات). الإيذاء الشخصي حق، ولا يمكن التأثير عليه حتى لو كان المرء قد دخل زنزانة (وهناك من المساجين مَن ينتحرون بالشنق أو بالإضراب عن الطعام). لكن مسألة التعاطي مع الضرر يجب أن تكون شخصيّة، وبيد العائلة إذا كان المرء قاصراً. أخشى أن تساهم بعض قوى اليسار في إعطاء دولة جائرة وغبيّة سلطة حضانة إضافيّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)