ورد كاسوحة *والسؤال الفعلي هنا هو التالي: كيف يمكن من ينظّر لمناهضة الخطاب «الشعبوي» (ضد إسرائيل) أن يمضي في تنظيراته فيما هو متورّط في نسق شعبوي مقابل أكثر فداحة بما لا يقاس من سابقه؟ يكفي أن ننظر إلى معيار واحد هو معيار الرعاية السلطوية لكلا الخطابين (أو لأحدهما) حتى يتضح لنا البون الشاسع (أخلاقياً) الذي يفصل بينهما. فالخطاب «النخبوي» المناهض لإيران يفتقر بخلاف نظيره الجماهيري المناهض لإسرائيل إلى من ينظّر له (أي ضده) ويحشد الطاقات في مواجهته، الأمر الذي يجعل منه غير منظور، ومفتقراً إلى سند حسّي. والسند هنا ليس بالضرورة أن يكون نظاماً نفطياً كما هي الحال مع الرعاية السعودية للخطاب المعادي للعامة والفقراء، بل قد ينقضي الأمر بتوفير مظلة رمزية ومستقلّة عن السلطات كلها، تتكفل بها أحزاب ومنظمات وأفراد يجمعها ائتلاف واحد ومتعدّد في آن. ائتلاف ليس على أجندته من بنود إلا الإصغاء جيداً لأصوات حرّة ورصينة كصوت سماح إدريس الصارخ اليوم في صحراء الثقافة العربية المستقلة.

كيف يمكن من ينظّر لمناهضة الخطاب «الشعبوي» (ضد إسرائيل) أن يتورّط في نسق شعبوي (ضد إيران) أكثر فداحة؟
المشكلة إذاً هي في وجود رعاية لمن ينظّر للتمركز حول ذات عربية متضخمة و«مهددة» «بالاجتياح الإيراني» الوشيك، وانحسارها ـــــ أي الرعاية ـــــ عمن يقول إننا نقع في الشطط عندما نعتقد أن أولوية الصراع مع إيران تتقدم على أولوية مناهضة إسرائيل ونهجها التوسعي.
وفضلاً عن مأزق توفير الرعاية السلطوية من عدمه، هنالك أيضاً مأزق الشرعية التي تؤرق كلا الطرفين بنسب متفاوتة. وهنا يمكن أن نسجل «لائتلاف» الاستقلال عن النظام العربي تقدماً ملحوظاً. ذلك أن «الشعبوية» المنعقدة في مواجهة السردية الصهيونية تنطوي على شرعية لا تحوزها نظيرتها المنعقدة في مواجهة جار طامح وطامع هو إيران. ولتذليل هذه العقبة يجب وضع السرديتين على قدم المساواة. وحتى يحصل ذلك لا بد بداية من توليف خطاب يضفي على الأجندة السلطوية المناوئة للنفوذ الإيراني شرعية معقولة. طبعاً لن يكتب لهذه المشروعية أن تصل إلى الحدود التي وصلت إليها مشروعية الصراع مع إسرائيل، لكن إيصالها إلى حد تغدو فيه مستساغة لدى مزاج عربي عام هو بالنسبة للسلالات الحاكمة و«نخبها» إنجاز لا يستهان به. وقد نجح هؤلاء إلى حد ما في اختراق

كيف يمكن من ينظّر لمناهضة الخطاب «الشعبوي» (ضد إسرائيل) أن يتورّط في نسق شعبوي (ضد إيران) أكثر فداحة؟
هذا المزاج، وحمله على زحزحة قناعات راسخة ومبدئية، والاستعاضة عنها بأخرى رجراجة وغير مقنعة إلا لمن يعاني مأزقاً حقيقياً في ترتيب أولوياته وتكييفها مع المتغيرات الجيوسياسية الحاصلة في المنطقة. وهؤلاء «كثر» لسوء الحظ و«كثرتهم» تجعل منهم كتلة صلبة وغير مرنة. والصلابة هنا ليست صلابة في المبدأ والخيار الأخلاقي بل صلابة في التمسك بوعي متمذهب ومتمحور حول ذات منتفخة (كما أسلفنا) وخائفة من جوارها (الشيعي الصفوي). ما يعني أنها باتت سهلة الانقياد ومستعدة للاستقالة من أدوار تاريخية لعبتها سابقاً في مواجهة «جوار» آخر (إسرائيلي عنصري قائم على الاجتثاث) هو وحده ما يجب أن تتعيّن هويتنا (وكذا وجودنا) في مواجهته. طبعاً كان يمكن هذا «التغير الاستراتيجي» أن يبقى في حدوده الدنيا لو لم يدخل عامل المصلحة في المعادلة. فإدماج هواجس الخوف وانعدام اليقين بدورة اقتصادية تتغذّى على الريع النفطي في الخليج دون وجود بدائل أخرى متاحة زاد من توريط المنتفعين من هذا النسق الاقتصادي في السردية المناوئة لإيران. والعامل الاقتصادي القائم على الريع وشراء النفوذ لا يفرّق عادة بين الأكثريات والأقليات، أو بين الفقراء والأقلّ فقراً. لذا فإن استغلال البيئة الطاردة في دول المنشأ (نتيجة للتفاوت الطبقي وانعدام العدالة في توزيع الثروة) والحاجة إلى العمل في الخليج أضفيا على الخطاب الذي يقول بانعدام جدوى المواجهة مع إسرائيل بعداً ذرائعياً حاسماً. وهذا البعد هو الذي يعوّل عليه اليوم الخطاب النخبوي (الشعبوي) لاستقطاب من لم تستطع الرّطانة «الليبرالية» الجوفاء استقطابه.
* كاتب سوري