ياسين تملالي *بعد قرابة عشر سنوات من نشره «يوميات الحرب» (2001) عن مشاركته في الثورة الجزائرية، أصدر الجنرال خالد نزار أخيراً عن دار ألفا (الجزائر) كتابَ مذكرات جديداً عنوانُه «على الجبهة المصرية»، هو عبارة عن ذكرياته كقائد «للواء الجزائري الثاني المحمول» في 1968ــــ1969، أي خلال الفترة التي تلت نكسة حزيران/ يونيو 1967 وشهدت اندلاع حرب الاستنزاف في تموز/ يوليو 1969.
ويُعد خالد نزار من القادة العسكريين الجزائريين الذين لعبوا دوراً سياسياً بارزاً، إذ كان المهندس الرئيسي لإلغاء انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 1991 التي فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية بدورها الأول، وأحدَ أعضاء مجلس الدولة الأعلى، الهيئة الانتقالية غير المنتخبة التي سيّرت الجزائر من 1992 إلى 1994، وظل أحد أصحاب القرار خلال «العشرية الحمراء»، عشرية التسعينيات، حتى بعد استقالته من منصب وزير الدفاع، ومن الجيش، سنة 1993.
وينقسم «على الجبهة المصرية» إلى قسمين، خصص أولهما لفترة قيادة الجنرال «للواء الجزائري الثاني المحمول» (1968ـــــ1969) الذي أدمج في القوات العربية المرابطة على الضفاف الشرقية للبحر الأحمر وقناة السويس، وثانيهما «للحروب المتعاقبة في الشرق الأوسط»، من حرب 1948 إلى حرب أكتوبر 1973. ويحتوي الكتاب على ملاحق بعضُها خرائط عسكرية وبعضها الآخر جداولُ تحصي الوسائل البشرية والمادية للوحدات العسكرية الجزائرية التي تناوبت على الجبهة المصرية بين 1967 و1975.
ويبدو قسم الكتاب الأول أقرب إلى مجموعة متفرقة منه إلى مذكرات حقيقية، ما يمكن تفسيره بقصر الفترة التي يرويها (سنتان) والتسرع في إصداره دون تنقيح، بهدف الإفادة دون شك من اهتمام القراء الجزائريين بما يتعلق بالعلاقات الجزائرية المصرية عقب الأحداث المؤسفة التي رافقت مقابلات كرة القدم بين الفريقين المصري والجزائري في نوفمبر 2009. وتبدو نقائص عمل الناشر جلية في عدم ترتيب بعض المحتويات (مثلاً، وضع ملحق عن «خسائر الطيران العربي في 5 يونيو 1967» في ختام فصل عن «حرب أكتوبر 1973 وعبور القنال»، ص 110) وعدم تأريخ بعض الأحداث رغم أن ذلك ممكن بالرجوع إلى مصادر أخرى، سرد الكاتب بعضها (كتابات الفريق سعد الدين الشاذلي والمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس)، ناهيك عن عدم حذف جمل هي شتائم عنصرية بينة من قبيل: «فهمنا أن هذه العبارات التي يبدو عليها اللطف كانت تخفي في طياتها الطابع الحقيقي للمصريين المليء بضغينة العداوة والغدر» (هكذا،
ص 49).
وبالرغم من هذه المآخذ، لا شك في الفائدة التوثيقية لمذكرات الجنرال نزار «على الجبهة المصرية»، فهي تعطي معلومات مفصلة عن العون العسكري الجزائري لمصر بين 1967 و1975، وتسمح بإدراك أدق لحالة الانكسار التي كان عليها الجيش المصري بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967 وقدرته على تجاوزها تدريجياً في خضم وقائع حرب
الاستنزاف.
ويشير الكاتب مراراً إلى ما عادت به هذه الحرب من فوائد على القوات العربية التي شاركت فيها. يقول (ص 29): «اكتسب الضباط تجربة أكبر وثابروا على أدائهم باستبسال نادر، ولم يدرك الإسرائيليون (...) أن قناة السويس وجزءاً من سيناء أصبحا بالنسبة للجيوش العربية حقلاً فعلياً للتدريبات. (...) لقد ربطت حرب الاستنزاف حربي الستة أيام وأكتوبر 1973 وساهمت في إنجاح (هذه الأخيرة) التي حققت هدفين هامين: هدم خط بارليف وعبوره، ما وضع حداً لأسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر».ويصحح الجنرال نزار بعض المعلومات عن مشاركة الجيش الجزائري في الحروب العربية (مثلاً: الطائرة الوحيدة التي أسقطت فوق تل أبيب في يونيو 1967 كانت حقاً جزائرية لكن طيارها كان ضابطاً مصرياً، ص 37)، ويشيد ببعض رفاق السلاح المصريين كقائد الأركان، الفريق الأول عبد المنعم رياض، الذي «لم يكن يدخر جهداً في أداء مهماته على أكمل وجه» (ص 63) أو العقيد أبو غزالة «أحد أبرع المتخصصين في المدفعية» (ص 49)، لكنه يتحدث باحتقار كبير عن ضباط مصريين آخرين: «المقدم جلال» الذي سعى، حسب قوله، إلى تحجيم دور اللواء الجزائري الثاني (ص 52 و53) أو ذلك «القائد» الذي «بقدر ما كان مقيماً في مكان مريح، بقدر ما كانت قواته تعاني الإهمال والضياع» (ص 54).
ويُستخلص من قراءة «على الجبهة المصرية» أن الضباط الجزائريين كانوا لا يترددون في عصيان أوامر بعض المسؤولين المصريين إذا خالفت ما يعتقدونه القرار التكتيكي الصائب (ص 48) وأنهم كانوا يعيبون عليهم محاولة تهميشهم، وعلى القيادة المصرية، طريقتَها «غير اللائقة» في التعامل مع جثامين الشهداء الجزائريين التي «كانت تنقل إلى الجزائر كأية أمتعة مبتذلة» (ص 58). أما الضباط المصريون، فمنهم من كان ينظر بعين التعجب أو الريبة إلى هؤلاء المدافعين عن «أرض العرب» الذين كانوا يدوّنون ملاحظاتهم بالفرنسية، ما علق عليه الجنرال نزار في أحد اجتماعات الأركان قائلاً: «لم نحظ بشرف تعلم العربية لكننا تمكنّا من طرد الفرنسيين من بلدنا» (ص 52). الأدهى من كل هذا، يقول الكاتب متحسراً، أن بعض ضباط الجيش المصري لم يتورعوا عن وصف جنود اللواء الجزائري «بالمتوحشين» (ص 58)، ما يذكرنا بكليشيهات قطاع كبير من الإعلام المصري عن الجزائريين خلال التوتر الذي أعقب المقابلات الكروية بين فريقي البلدين في شتاء 2009.
ويتحدث الجنرال نزار بشيء من التعالي عن عدم جاهزية الجيش المصري مقارنة بالقوات الجزائرية وعدم اكتراث بعض قياداته لحالة جنوده، ولا حتى لمعرفة حجم الخسائر في صفوفهم عند حدوث غارات إسرائيلية (ص 56)، وينتقد تعمد بعض الضباط إخفاء تردي كفاءات وحداتهم على رؤسائهم. يقول واصفاً عرضاً عسكرياً حضره في أيار/ مايو 1967: «كان عرضاً ضخماً. أصيبت أهداف الدبابات كلها بحيث كان يتصاعد منها كل مرة نار ودخان (...)

ضباط مصريون كانوا ينظرون بعين الريبة إلى هؤلاء المدافعين عن «أرض العرب» الذين كانوا يدوّنون ملاحظاتهم بالفرنسية
عرفت في ما بعد أن المصريين كانوا قد أخفوا براميل من الوقود خلف أهداف الدبابات وأن كل الرميات كانت محدة ومهيأة سلفاً. وراء كل هذا السيرك كان هناك هدف واحد: كسب رضى القائد». (ص 32). لا تبدو رواية هذه النادرة مجرد تصفية حسابات شوفينية لأنه يردفها بنادرة أخرى عن تزييف الحقائق الميدانية في الجيش الجزائري بغرض نيل إعجاب الرئيس (ص 33).
وإذا كانت الأهمية التوثيقية لقسم الكتاب الأول واضحة، فإن فائدة قسمه الثاني عن «الحروب المتعاقبة في الشرق الأوسط» مشكوك فيها لأن جل محتوياته يمكن العثور عليها في أية موسوعة تاريخية جادة. أما ما يمكن اعتباره مصدر معلومات ثرياً، فهو الملاحقُ التي تفصل الدعم الجزائري لمصر من المال والعدد والعدة بين 1967 و1975. وقد شمل هذا الدعم، حسبما نشره الجنرال نزار من أرقام، هبة مقدارها 300 مليون دولار وشيكاً لتمويل مشتريات من الأسلحة السوفياتية و20 ألف مقاتل ومئات الدبابات والسيارات المصفحة والرباعية الدفع والمدافع وعشرات الطائرات القتالية، وقد تم التنازل عن جزء معتبر من هذا العتاد للجيش المصري. وقد أولى الناشر مهمة استخلاص العبر السياسية الحاضرة من مشاركة الجيش الجزائري في حروب مصر ضد إسرائيل إلى كاتب الخاتمة، بشير مجاهد، من المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة. يقارن هذا الباحث بين «التزام الجزائر العسكري والدبلوماسي إلى جانب مصر» و«السيناريو البائس الذي أعدته أياد مصرية تمهيداً لقطع العلاقات الدبلوماسية» بين البلدين (الحملة الإعلامية المصرية شبه الرسمية ضد الجزائر في أواخر السنة الفارطة). أما ما يخلُص إليه فلا يتعدى تجديدَ دعوة نسمعها منذ سنوات إلى تحديد السياسة الخارجية الجزائرية على أساس «مصالح البلاد» ولا شيء غيرها. يقول: «إن صدور الكتاب في هذه الظروف (...) يسهم في إعادة تحديد الروابط التي نشأت بين البلدان العربية ويفتح النقاش في الجزائر حول الخيارات الواجب تبنيها لمعرفة المجالات الجيوسياسية التي ينبغي علينا الانحياز إليها».
ويعبر مقترح التفكير في هذه «الخيارات» عن وجهة نظر تيار داخل السلطة ونخبها (بل حتى داخل بعض النخب «المستقلة»)، يدعو إلى «تخفيف» الارتباط بالعالم العربي وتعميق الاندماج في مجالات جيوسياسية غيره (الأوروالمتوسطية، مثلاً)، بحجة أن المصالح الاقتصادية يجب أن تصبح المحدد الرئيسي لسياسة الدولة في الخارج. ويلاحظ على هذا الخطاب أنه ينطلق من واقع شبه وهمي، فالجزائر، بسبب انفراط عقد القومية العربية والأيديولوجية العالم ـــــ ثالثية والعزلة الدولية التي عاشتها خلال سنوات التسعينيات الدامية، لم تعد معنية كثيراً لا بالقضايا العربية ولا بالقضايا الأفريقية ولا بقضايا حركة عدم الانحياز. من هذا المنظور، فإن الدعوة إلى إعادة تحديد «المجالات الجيوسياسية التي ينبغي الانحياز إليها» ليست سوى تنظير بَعدي لواقع حي معيش، واقع إدارة الدبلوماسية الجزائرية ظهرها لأفريقيا والعالم العربي وتعمق قطيعة البلاد مع مختلف أعماقها الاستراتيجية.
* صحافي جزائري