معتصم حمادة *ليست هي المرة الأولى التي تلجأ فيها سلطات الاحتلال إلى سياسة طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من وطنهم. فالمشروع الصهيوني قام أساساً على فكرة الطرد والتهجير هذه، وعلى إحلال مجموعات يهودية محل المواطنين الفلسطينيين، ومحو الاسم العربي للأرض، وفرض الاسم العبري البديل عليها. وباعتراف رئيس حكومة إسرائيل الأسبق أرييل شارون، فإن حرب 1948 لم تنته بعد، وإن إسرائيل لا تزال تعتدي (يقولون تقاتل) لتفرض مشروعها الصهيوني، المعرض في كل لحظة للانسداد والفشل. لذلك، لم تكفّ عن احتلال الأرض، وتشييد جدار الفصل، وتهويد القدس، وتوسيع المستوطنات، وأخيراً، وليس آخراً، العمل بنصائح وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان وسياساته، أي تطبيق سياسة الطرد والتهجير الجماعي. لكن هذه المرة ليس من داخل مناطق الـ48، بل من الضفة الفلسطينية وعلى مرأى من السلطة الفلسطينية ومسمع منها، بذريعة أن القرار يطال مجموعات من المتسللين، والمقيمين بصورة غير شرعية. ووفقاً لتقديرات سلطات الاحتلال ومزاعمها، فإن عدد هؤلاء يصل إلى حوالى 70 ألفاً من المواطنين الفلسطينيين.
وهكذا تنقلب الصورة، رأساً على عقب، ويتحول المستوطن اليهودي القادم من أقاصي الأرض على دبابة إسرائيلية، مقيماً شرعياً. ويتحوّل الضابط الصهيوني سيداً، بصلاحيات منحها لنفسه، تخوّله منح الإقامة لهذا، وحجبها عن ذاك، ويتحول الفلسطيني في نهاية الأمر إلى مقيم غير شرعي في وطنه.
¶ ¶ ¶
هذه المرة يختلف القرار الإسرائيلي، في سياقه العام، عن القرارات السابقة. فهذه المرة يصدر القرار بطرد 70 ألف فلسطيني، في ظل سلطة فلسطينية تؤكد ليل نهار أنها سلطة وطنية. ويقدم رئيس حكومتها نفسه باعتباره صاحب مشروع لإقامة الدولة المستقلة في آب (أغسطس) من العام المقبل. ويقدم رئيس السلطة نفسه باعتباره مسؤولاً عن كل فلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها. فضلاً عن ذلك، فلرئيس السلطة رأي في «الإبعاد» عبّر عنه بطريقة قاسية جداً، وهو ينتقد، في إحدى المرات، قرار إبعاد «مجموعة كنيسة المهد» في عام 2002. وبالتالي، يأتي القرار الإسرائيلي ليضع مجمل الحالة الفلسطينية أمام مستجد، هو في حقيقته صفعة، تريد أن تعيد الكثيرين، ممن راودتهم أحلام اليقظة وأوهامها، إلى طريق الصواب، من دون الهرب للاختباء خلف الكلمات والعبارات والجمل المضلّلة.
القرار الإسرائيلي يقول إننا في مواجهة عدو ولسنا في مواجهة «شريك في العملية السياسية»... قد يستغرب البعض هذا الكلام، ولا يرى فيه جديداً، لكننا بحاجة إلى تأكيد هذه الخلاصة لأن البعض المتنفّذ، وصاحب اليد الطولى في القرار الفلسطيني، لا يزال حتى الآن، ورغم كل الحقائق الفاقعة، يراهن على العملية السلمية، ويقدم نفسه حريصاً على هذه العملية، ويقف في محطة الانتظار، من دون سأم أو ملل، بانتظار وصول الشريك الإسرائيلي. مع أن تجربة حوالى ثمانية عشر عاماً، أثبتت أن هذا الشريك لم يركب قطار الحل السلمي بعد، ولن يصل إلى المحطة المنشودة أبداً. وأن العملية السلمية، في ظل موازين القوى الحالية، ما هي إلا وهم، يعوم بين أمواجه المفاوض الفلسطيني، بينما الجانب الإسرائيلي متفرغ، كليّاً، لفرض الوقائع على الأرض، ولتعميق الوهم الفلسطيني، بحيث لا يجد فريق السلطة، في نهاية الأمر، ما يصلح للتفاوض عليه.
والقرار الإسرائيلي يقول أيضاً إن رهن الموقف الفلسطيني بمدى تقبّل الاتحاد الأوروبي وواشنطن وتأييدهما له، ما هو إلا سياسة عقيمة. فإذا كان الاتحاد الأوروبي، ومعه واشنطن، حريصين، كما يقولان، على حل النزاع خلال سنتين، تنتهيان بإقامة دولة فلسطينية، فإن حرصهما يجب أن يتجلى في خطوات فاعلة، تضغط على الجانب الإسرائيلي، وتعطل أي إجراءات يمكن أن تعرقل تسوية مقبولة تقود إلى دولة فلسطينية. إلى ذلك، فإن الوعود الأوروبية والأميركية لا تمثّل سبباً كافياً ليتبع الفريق الفلسطيني سياسة انتظارية، مترقّباً الأيام والأشهر إلى حين الاستحقاق التاريخي. بل نفترض أن على هذه الوعود أن تكون محفّزاً لاتّباع سياسة تصدٍّ عمليّة لإجراءات الاحتلال، تضع الجميع أمام الاحتمالات المفتوحة، وترغم الجميع على التدخل والتحرك الفاعل، قبل أن تتدهور الأمور وتخرج عن السيطرة. فالطرفان، الاتحاد الأوروبي وواشنطن، لا يخفيان إدراكهما أن إشعال الفتيل في الشرق الأوسط، وفي فلسطين، تحديداً من شأنه أن يشعل أكثر من فتيل في أكثر من بقعة على هذه الأرض. وبالتالي فإن شجب السلطة للقرار الإسرائيلي، وإدانته، ودعوتها المجتمع الدولي للتدخل، من دون أن تكون هي المبادرة للتدخل والتصدي لمفاعيله، ما هو إلا ذرّ للرماد في العيون وتعبير عن سياسة فاشلة.

■ ■ ■

القرار 1650 يضع الجميع أمام استحقاق سياسي من الطراز الأول. إذ يطرح على الجميع السؤال الآتي: «من هو صاحب السيادة على الأرض الفلسطينية؟». الجانب الإسرائيلي يتصرّف باعتباره هو صاحب السيادة، مستنداً في ذلك إلى قوة عضلاته العسكرية، وإلى ما منحه اتفاق أوسلو من صلاحيات، معترفاً له بأحقيّته في منح

القرار 1650 يطرح على الجميع السؤال الآتي: من هو صاحب السيادة على الأرض الفلسطينية؟
تراخيص الدخول إلى المناطق الفلسطينية وإنهاء مفعولها. وبأحقيّته في منح الفلسطينيين ما يسمى الرقم الوطني، وبالاحتفاظ بسجل السكان الفلسطينيين باعتبارهم مجرد مقيمين وليسوا مواطنين. كما يستند الإسرائيلي إلى عامل هام وخطير جداً، ألا وهو اقتناعه بأن المفاوض الفلسطيني حسم خياراته لمصلحة المفاوضات من دون غيرها، وأسقط من حساباته باقي الخيارات.
القرار 1650 يضع الجانب الفلسطيني الآن أمام لحظة تمكّنه، إن هو أراد، من إعادة رسم المشهد، ليقف على قدميه، بعدما وقف طويلاً على رأسه، وبحيث يجري قلب الطاولة في وجه الاحتلال، وفي وجه الوعود الفارغة، وفي وجه السياسات الانتظارية، كما تمكّنه من نزع «الشرعيّة السياسيّة» عن الاحتلال باعتباره شريكاً مزعوماً في العملية السياسية، ووضعه في مكانه الحقيقي، باعتباره عدواً يمارس العدوان بأساليب شتى، ومن حق المواطن الفلسطيني أن يتصدى لهذا العدوان، بكل ما يملك من وسائل وأساليب، وبما يضع الجميع أمام واقع جديد، يدفع بهم للتفكير بأسلوب جديد، يحتل فيه القرار الفلسطيني الموقع الأكثر تأثيراً على العواصم المعنيّة بالصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.
أخطر ما في سياسة العدو، بموجب القرار 1650، أنها لا تكتفي بانتزاع الأرض من الأيدي الفلسطينية. بل تتعدى ذلك لإبعاد الإنسان، صاحب الأرض، فلا تجد من يدافع عنها، ويصون وجهها الفلسطيني وقلبها العروبي.
ولعلّنا في قراءاتنا لدروس نكبة 1948 ما يدفعنا لأن نستخلص الكثير والكثير من العبر والخبرات.
* عضو المكتب السياسي
في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين