strong>مصطفى بسيوني * الاحتجاجات تحوّلت منذ فترة إلى ظاهرة يومية في مصر، سواء كانت سياسية أو عمالية أو حقوقية. ثقافة الاحتجاج وحقّ التعبير أصبحت أمراً منتهياً في الحياة السياسية المصرية، ولكن تظاهرة السادس من نيسان/ أبريل وحدها جرى قمعها على نحو وحشي لا يتناسب بالمرّة مع طبيعة التظاهرة، التي كانت ستطالب بتعديل الدستور كما يطالب معظم المعارضين. ربما كان يكفي محاصرة المتظاهرين بقوات الأمن تحت زعم حمايتهم، كما هي العادة حتى انتهاء التظاهرة وتوفير المزيد من النقد والتشهير بوحشية الأمن واستبداد النظام. ولكن ما حدث من ضرب واعتقال وسحل للمتظاهرين، الذين لم يمثّلوا تهديداً حقيقياً للأمن، كان أقرب للثأر والانتقام منه للقمع. لم تعامل تظاهرة السادس من نيسان/ أبريل بالطريقة المعتادة ـــــ التي لا تخلو أيضاً من بعض القمع ـــــ وتطرف النظام في قمعها لسببين واضحين جداً. أولهما أن النظام لم ينسَ مشهد تظاهرات مدينة المحلة في نيسان/ أبريل 2008 وهي تحطّم صور مبارك في الشوارع، تلك المشاهد التي نقلتها وسائل الإعلام في العالم، واستدعت توجّه رئيس الحكومة بصحبة عدد من الوزراء لمدينة المحلة وتقديم تنازلات مهمّة لعمالها. هذا المشهد لم يُمحَ أبداً من ذاكرة النظام بعد مرور عامين عليه، وجعله يتعامل مع نيسان/ أبريل 2010 كإحياء لذكرى تحطيم صورة الرئيس ـــــ وربما عدّها فألاً سيّئاً في هذا الوقت ـــــ لا مجرد إحدى التظاهرات المطالبة بتعديل الدستور وإلغاء قانون الطوارئ فظهر هذا القمع الانتقامي. العامل الثاني هو أن شبح السادس من نيسان/ أبريل لم يظهر فقط من حركات المطالبة بالإصلاح السياسي، التي تصاعدت أخيراً في مصر، ولكنه مثّل محاولة التقاء بين حركة النضال العمالي وحركة النضال الديموقراطي. فالسادس من نيسان/ أبريل 2008 كان الموعد المقرر لإضراب عمال غزل المحلة، وتلقّفته قوى التغيير لإعلانه يوماً للإضراب العام. وبغضّ النظر عن تقويم تلك الدعوى وأثرها فإنّ النظام أحسّ بإمكان التقاء شعارات التغيير بالحركة العمالية الصاعدة وتمثيلهما خطراً حقيقياً لا يمكن التسامح معه. ولكن الأهم في رسالة السادس من نيسان/ أبريل أنها طرحت قضية الإصلاح الديموقراطي في مصر على أرضية مختلفة غير تلك التي طرحت عليها طوال الوقت. فقد بدت قضية الإصلاح السياسي ليس فقط قضية النخب السياسية في مصر، بل أصبح السؤال عن موقف الحركة العمالية والاجتماعية من تلك القضية ودورها فيها من الأسئلة الأساسية في هذه المرحلة. والسؤال هو هل يمكن كسب معركة الديموقراطية في ظل غياب الحركة العمالية والاجتماعية عنها. للأسف لا توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال، فبالطبع يمكن تحقيق بعض المكاسب الديموقراطية عبر سياسات الضغط والنضال القانوني ونضال النخب والتجمعات السياسية وحتى الضغوط الخارجية. والملاحظ أن الهامش الديموقراطي قد اتسع بالفعل خلال السنوات السابقة بفعل تلك العوامل، فزادت مساحة الإعلام المستقل وتنامت الجماعات السياسية النشطة ويبدو أن المزيد قابل للتحقق في المرحلة المقبلة. ولكن الملاحظ أيضا أن سياسات النظام الرئيسية المرتبطة بمصالح المجموعة الحاكمة في الاقتصاد والعلاقة بالإمبريالية والصراع العربي الصهيوني لم يطرأ عليها تغيّر بل على العكس تزايد دفع النظام إلى تطبيق سياسات السوق، وزاد ارتباطه بالإمبريالية وأحكم حصاره على المقاومة الفلسطينية وعمّق تعاونه مع إسرائيل. والأهم أن محاولة النظام تجديد نفسه مع الاستمرار في تطبيق نفس السياسات عبر إجراء مجموعة تغييرات شكلية أمر وارد جداً، ويتناسب مع حجم الضغط الذي يتعرض له بالفعل. إن المعارضة الليبرالية الصاعدة في مصر اليوم، التي تحاول جاهدة فتح ثغرة في جدار الديكتاتورية إذ تناضل بإخلاص ضد الاستبداد السياسي القائم إلّا أنها لا تتناقض جذرياً مع السياسات التي يطبّقها النظام، وكل ما تسعى إليه هو تهذيب هذه السياسات، فهي مثلاً لا تعارض برامج الخصخصة من حيث المبدأ، وتكتفي برفض الفساد الذي يكتنفها. ولا تسعى إلى تهديد حقيقي للمصالح الإمبريالية والصهيونية، بل تكتفي بالحديث عن علاقات متوازنة ونديّة ولا مانع حتى من المساندة الأميركية للإصلاح الديموقراطي والضغط على النظام. هذا الطابع المعتدل للمعارضة الليبرالية هو ما يدفعها إلى الاختصار الشديد لبرنامجها الإصلاحي، وتلخيصه في تعديل بعض مواد الدستور لإتاحة الفرصة لانتخابات رئاسية حقيقية. حسنا فحتى هذه الأهداف لا تبدو متواضعة في ظل نظام مزمن يستعصي على أيّ تغيير منذ عقود، على العكس فحجم المصالح التي يحميها الاستبداد السياسي في مصر تجعل عملية التغيير حتى في تلك الحدود بالنسبة إلى النظام ومحيطه مسألة حياة أو موت. فملفات الفساد التي تفتح حسب الطلب، والقتلة الذين ينجون من حبل المشنقة واحتكارات السلع الرئيسية والمزايا الضخمة التي تحصل لكبار الملاك ليست كل ما يتمتع به النظام ومحيطه، فقد أديرت عجلة السياسة والاقتصاد لمصلحة طبقة جمعت السلطة والثروة في يد واحدة، والتنازل السهل عن تلك المزايا أمر غير وارد، وكل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية ستقاوم هذا التغيير بكل تأكيد. ولكن من ناحية أخرى، إذا نظرنا إلى من لهم مصلحة أكيدة في التغيير الديموقراطي فسنجد إمكانات غير محدودة. فالسياسات التي طبّقت في ظل الاستبداد والطوارئ أضرّت بالكثيرين. العمال الذين تدهورت أجورهم وفقدوا أعمالهم في ظل الخصخصة لمصلحة المستثمرين، الفلاحون الذين انتُزعت منهم الأراضي وعانوا من ارتفاع أسعار المستلزمات الزراعية وانخفاض أسعار توريد الحاصلات لمصلحة كبار التجار وملاك الأراضي، الطلاب الذين ارتفعت تكلفة تعليمهم وانخفضت قيمة درجاتهم العلمية في ظل التوسع في التعليم الخاص وانتهاء مجانية التعليم، الفقراء الذين استنزفهم ارتفاع الأسعار وتفشي الفساد حتى أصبح ما يقرب من نصف السكان تحت خط الفقر. أليس لهؤلاء مصلحة أكيدة في التغيير وبإمكانهم تحقيقه. بالتأكيد، ولكن أيّ تغيير سينشده هؤلاء، إنه بالطبع التغيير الذي يلبّي احتياجاتهم إلى التغيير الذي يربط بين تعديل الدستور وانتخابات رئاسة الجمهورية والحد

ما حدث من ضرب واعتقال وسحل للمتظاهرين الذين لم يمثّلوا تهديداً حقيقياً للأمن، كان أقرب للثأر والانتقام منه للقمع
الأدنى للأجور وأسعار الأسمدة واحتكار السلع الأساسية. الديموقراطية الممكنة في مصر ليست تلك الديموقراطية التي تتفادى طرح التغيير الشامل للسياسات التي عاناها المصريون لعقود، وتختصر التغيير في القمة ولو حتى كمقدمة لتغيير أشمل، ولكن على العكس تنطلق معركة الديموقراطية من المعارك القائمة بالفعل، التي يخوضها يومياً عمال وفلاحون للدفاع عن مصالحهم المباشرة. تصبح الديموقراطية ممكنة عندما تدرك تلك القطاعات معناها بالنسبة إلى حياتها. هل أمر كهذا يبدو ممكناً؟ الواقع نعم. فمثلاً عندما تمكّن موظفو الضرائب العقارية من تنفيذ مطالبهم عبر الإضراب قرروا تحويل لجان الإضراب إلى نقابة مستقلة، وانسحبوا من التنظيم النقابي التابع للدولة. أدرك الموظفون أهمية امتلاك تنظيم مستقل عن الدولة لحماية مصالحهم. وحالما أعلن الموظفون نقابتهم داعبت الفكرة العديد من التجمعات العمالية، وأصبح التنظيم العمالي المستقل ـــــ وهو من أرقى أشكال الممارسة الديموقراطية ـــــ على جدول أعمال الحركة. إنّ الثغرة التي تكافح المعارضة الديموقراطية اليوم لفتحها في جدار الاستبداد يمكن أن تتحول إلى هوّة سحيقة تبتلع عهد الديكتاتورية، وتبدأ عهد الديموقراطية، ويمكن أيضاً أن تتحوّل إلى زينة يجمّل بها الاستبداد وجهه ويكسب بها عمراً آخر.
لقد حمل السادس من نيسان/ أبريل 2008 إمكاناً مهمّاً أدركته الدولة وأدركت خطورته وأصبحت تحاول محو هذه الذكرى من تاريخ الحركة العمالية والديموقراطية على السواء، ولكن صفوف العمال المضربين، التي تتزايد يومياً، والتي انتقلت أخيراً من الشركات إلى ميادين العاصمة، تحفر على طريقتها مسارها نحو الديموقراطية.
* صحافي مصري