وائل عبد الفتاح«ها نحارب»، هذه نغمة مسموعة في الحكومة المصرية هذه الأيام. نغمة موجّهة فعلياً ضد المتظاهرين الذين طالب نواب الحزب الوطني الحاكم وزير الداخلية باستخدام الرصاص الحي لحماية البلد من «مؤامرتهم».
ومصر «ها تحارب» أيضاً على جبهة النيل وفقاً لتهديد خفي أرسله وزراء مصريون أمس، بعد الفشل الكبير في شرم الشيخ أخيراً.
الحرب مشتعلة فعلاً ضد المتظاهرين. لكنها بالون اختبار خائب في مواجهة «مؤامرة» اختطاف ما تعدّه الدولة المصرية «حقاً تاريخياً» في مياه النيل.
الدولة في مصر فاعلة في حربها الداخلية على خصوم النظام. لكنها ليست كذلك في حروبها الخارجية. وها هي تخسر أخذ «الخطوط الحمراء» لما تسمّيه الدولة نفسها «الأمن القومي المصري». وإذا سارت الخسارة في طريقها الحالي فإن النظام الذي يفخر بالحكمة التي أبعدته عن الحرب مع إسرائيل أو التورط في أيّ نقطة ساخنة، سيجر البلاد إلى حرب دفاعاً عن حصة المياه، وإلا فإنه سيواجه «مجاعة مائية».
النظام المشغول بالحرب على المتظاهرين يدفع ثمن الغياب عن أفريقيا، ولم يكن مفاجأة لأحد قرار وزراء دول حوض النيل السبعة في شرم الشيخ: إعادة توزيع حصص المياه. إنها مؤامرة إسرائيلية يقول ذلك النظام ومعارضوه في الوقت نفسه. لكنها مؤامرة شبه معلنة ولم تبدأ مع طلب مصر زيادة حصتها ١١ مليون متر مكعّب وصدمتها بالرد القاسي من دول المنبع: نريد إعادة توزيع الحصص لأنها جرت وفق اتفاقية لم تضع فيها بريطانيا مصالح مستعمراتها.
هكذا أعلنت الدول، التي اجتمعت في كينشاسا (أيار ٢٠٠٩) والاسكندرية (تموز ٢٠٠٩)، ما يشبه الانشقاق بين «المنبع» و«المصبّ» للمرة الأولى في التاريخ الحديث. مصر تعاملت بمنطق الحق التاريخي لأن النيل هو مصدر الـ٩٥ في المئة من احتياجاتها المائية، بينما لا يمثّل سوى ١ في المئة إلى ٣ في المئة من احتياجات دول المنبع، وخصوصاً إثيوبيا وكينيا وأوغندا.
واعتمدت القاهرة على اتفاقية وُقّعت عام ١٩٢٩، برعاية «المستعمر» البريطاني، ومُنحت فيها مصر حصة (٥٥ مليون متر مكعب) بالاتفاق مع السودان (حصته ١٥ مليون متر مكعب). لكنها الآن تحتاج إلى «حرب» للحفاظ على الحصة القديمة لا زيادتها.
رفضت دول المنبع اقتراحات مصر والسودان (المصب)، وهذا يعني ببساطة أنّ اتفاقية جديدة ستوقع بناءً على خريطة مصالح لا تشارك فيها مصر إلا بوجود «تاريخي» تحقّق في زمن مصر الناصرية، حينما كانت أفريقيا دائرة من دوائر ثلاث (إلى جانب العالم العربي والعالم الإسلامي) وذراع مصر الطويلة أُديرت عبر مشاريع شركة النصر للاستيراد والتصدير، الشهيرة بدورها في تعمير أفريقيا ما بعد الاستقلال.
مصر انسحبت من أفريقيا، لكنه انسحاب عشوائي احتلّته إسرائيل وفق خطة مدروسة (اسمها شد الأطراف) و٥ آلاف خبير في مجال تدريب الجيوش وإنشاء المزارع وتصدير الزهور. وهكذا نجحت الخطة في تغيير اتجاه السهم الأفريقي وبرأس إثيوبي، لتحبس مصر داخل حدودها.
الخطة لم تعد سرية منذ ١٩٩٥ تقريباً، وخصوصاً بعد فتور العلاقات بين مصر وأفريقيا في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس بابا.
لكن النظام مشغول بالحرب الداخلية. وببناء جيش الأمن المركزي في مواجهة المتظاهرين، ثم يأتي ويبكي من المؤامرة، وتعلن حكومته في الصحف تخصيص ما يقارب الـ ٢٧ مليون دولار للتعاون مع دول حوض النيل، بينما تصرف إسرائيل ودول أخرى أضعاف هذه الميزانيات لتربط أفريقيا كلها بشبكة المصالح.
أفريقيا خرجت من أولويات السياسة المصرية، وبعد الدكتور بطرس غالي، لا يوجد من يهتم بالملف في الإدارة المصرية، لتصبح القارة ودولها المحورية ملعباً للصراع بين إيران وإسرائيل، بينما مصر غارقة في مرض «الحق التاريخي» الذي تطالب به الجميع من دون لفتة واحدة لتنمية هذا التاريخ.
مصر غائبة عن معاركها الحسّاسة ومشغولة بمعارك توزيع الغنائم بعد تدجين المعارضة ونحرها في حرب الـ٣٠ سنة الأخيرة.
الخطر حقيقي. لن يُحلّ بميلودراما توجّهها البروباغندا الرسمية في مصر لتشكو من إسرائيل المتآمرة، وكأنّ المؤامرة قدر لا يمكن مواجهته إلّا بالدموع والآهات وتسوّل التعاطف.
هي حرب على النيل، لكنّ النظام يوجّه مدافعه عكس الاتجاه الصحيح. وهذه هي الهزيمة السابقة الإعداد.