حسان الزينيعيش ذوو الدخل المحدود، أي غالبيّة اللبنانيين، ظروفاً اجتماعية واقتصادية صعبة. فالسياسات الاقتصادية والاجتماعية عموماً لا تأخذهم بالحسبان، بل هي على حسابهم. وافتقاد الطاقم السلطوي الحس الاجتماعي وطغيان خطابه السياسي يزيدان الأمور سوءاً.
لكن، رغم هذا، الكثير من تلك الفئات تتجاهل واقعها الاجتماعي وقضاياها، لمصلحة الخطاب السياسي وأجندات الطاقم السلطوي. والتشكيلات النقابية المنحسرة أصلاً، هي عبارة عن خلايا حزبية تتآكلها الانقسامات. وكلُّ هذه التعقيدات تحول دون قيام النقابات بأدوارها وبمهمة إعادة صوغ الوعي الاجتماعي ليأخذ مكانه في المسرح السياسي. وليس التحرّك الضحل للسائقين العموميين، أمس، إلا دليلاً على وضع التجزئة والبؤس الذي وصلت إليه النقابات وأحزابها.
يتحمل الطاقم السلطوي والأحزاب عموماً، بما في ذلك اليسارية منها، كل بحسب عمله، مسؤولية تجويف العمل النقابي وتبئيسه وجعله امتداداً للعمل الحزبي والسياسي اللااجتماعي. فالحرب التي شنّها الطاقم السلطوي على النقابات وعلى الأحزاب ذات الحس الاجتماعي وعلى المواطنين، بعد وقف الحرب العسكرية، أشد وأقسى وأكثر برمجة ولؤماً. فالاتحاد العمالي العام خرج من الحرب في وضع أفضل مما هو عليه الآن. والنقابات بقيت خلال الحرب ملتصقة بالناس أفضل من الآن، بالرغم من بدء إشاحة الناس النظر عنها مذاك.
لكن، في المقابل، يتحمل المواطنون مسؤولية في ذلك، وفي نموّ ثقافة العبث النقابي والحزبي والسياسي والاجتماعي في بلد الهجرة والمبادرة الفردية... والحياد.
البلد عموماً يفتقد الثقافة التي تعيد إليه إحساسه بذاته. هذا ما يجعل تحرّكَ السائقين العموميين، وقبلهم أساتذة التعليم الثانوي والمهني الرسمي، شأناً خاصاً، أو بالأحرى لا أحد من خارج هذه الفئات يكترث ويُعنى، ولو على سبيل المعرفة والاطلاع. وفي كل مرّة يحصل فيها تحرّك، مثل إضراب أمس، يتأكّد ذلك ويتعرى ما هو مكشوف وواضح، أي بؤس العمل النقابي وانحساره وبؤس ثقافة المواطَنة. ما يدفع إلى التساؤل لا عن جدوى التحرك بل عن معناه. فالنقابات تقليدية في أساليب تعبيرها المستنسخة عن أساليب تعبير الأحزاب والقوى السياسية: إضراب، تظاهر، كولا، بربير، رياض الصلح. ويُدعى إلى هذا في ظل غياب ثقافة العمل النقابي والمواطنة. فالعامل لا يتحرك نقابيّاً في معمله ومصنعه وورشته، والموظّف كذلك. الجميع يقفز من فوق مساحته المهنية والوظيفة والنقابية والاجتماعيّة إلى الحيّز العام. والحيّز العام مشغولٌ بأجندات سياسية بعيدة عن الحس الاجتماعي.
صحيح أن «صاحب العمل» الذي يتوجّه إليه المتحرّكون غالباً ما يكون «الدولة»، إلا أن السؤال يبقى عن العمل النقابي وأين الجسم النقابي وعلاقاته بالعاملين والمواطنين وفي ما بينه، وماذا عن علاقات العمال والموظّفين بأرباب العمل الآخرين؟ الجواب، في السياسة. فالنقابيون خلايا نائمة للطاقم السلطوي والأحزاب، ونقاباتهم فِرقٌ حزبية تفوح منها رائحة الألاعيب الحزبية والمؤامرات في بعض الحالات، وكله من أجل أن تبقى هذه النقابة أو تلك في يد هذا الحزب أو ذاك الشخص. هذا ما يفسر ارتباط النقابات بالأحزاب التي تحركها بالريموت كونترول. فحتّى أحزاب السلطة بات لديها نقابات لا تتوانى عن استخدام تراث «كلاس» وهي تنتقد تحرك «زملائها»، في سبيل تجويف أي تحرك ومحاصرته.
لا أعرف ما إذا كان يجوز علمياً نعي العمل النقابي في لبنان، لكن يمكن الجزم بأن هذه التشكيلات ليست نقابات، إلا إذا كانت النقابات هي من يَهْجُر بيته ويعبث في الشارع، أو في بيوت مهجورة! فالتشكيلات الحالية تصادر مطالب المواطنين لمصلحة أجندات سياسية استنسابية تضاعف ابتعاد الناس عن مطالبهم. والمشكلة أن الناس لا يحتاجون إلى من يبعدهم أكثر عن «واقعهم»، ويشتّت تركيزهم على الانقسامات المذهبيّة، لا سيما أن الامتحانات كثيرة وأقربها الاستحقاق البلدي.