إيلي شلهوبكثيرة هي الأمور التي تلفت زائر طهران، مهما تكرر ترداده إليها. مدينة أشبه بخليط يجمع عناصر من العوالم جميعها، أول وثان وثالث ورابع. بعضها يجعلك تفهم كيف أصبحت إيران دولة إقليمية عظمى، وبعضها الآخر يجعلك تستغرب أنها لا تزال واقفة على قدميها. البداية تكون عادة مع السؤال البديهي الذي لا يمتلك أحد الإجابة عنه: لماذا تبني دولة ما مطاراً لمدينة يبعد عنها ساعة سفر في السيارة، ما يجعل الوصول إليه رحلة قائمة بذاتها مع ما تختزنه من عناء وجهد؟ هناك من يقول إن السلطات تسعى إلى تفريغ طهران من كثير من المؤسسات، في محاولة للتخفيف من حدة الازدحام الخانق فيها، تمهيداً لنقل العاصمة إلى مدينة أخرى.
بعدها تلحظ مباشرة حقيقة وجود «سيارة واحدة لراكب واحد» في مدينة تُعد من بين الأكثر تلوّثاً وازدحاماً في العالم. مدينة تلفتك نظافة شوارعها التي تبدو كأنها تخترق غابات تخرج منها مجموعة من الكتل الأسمنتية. ستسمع بلا شك أحداً يسارع إلى إبلاغك أن كل ما تراه من حولك صناعة إيرانية، في مقدّمها السيارات. غالباً ما ستمرّ قرب مستشفى أمراض القلب، الأضخم في المنطقة، أو مفاعل طهران للأبحاث الطبية.
لا بد أن تلحظ أيضاً هذا التراخي في قبضة الشرطة الأخلاقية. ترقبه من خلال زي النساء الذي يزداد انحساراً عن الرأس والتصاقاً بالجسم، ومن جلسات العشاق في المطاعم وتجوالهم يداً بيد في الحدائق العامة. غالباً ما ستتشابك النظرات بينك وبين إحدى الإيرانيات. ستذهلك مجدداً كم تختزل من قوة في عينيها، اللتين لن تشيح بهما عنك قبل أن تفعل. قوة تعبّر عن حالها في مجتمعها. ستلحظ مرونة في المعاملات المالية، حيث بات تبادل العملات متوافراً في كل مكان، حتى في محالّ البقالة.
أمور أخرى ستلفتك إن كانت زيارتك تتجاوز الغايات السياحية. تفانٍ في الاهتمام يُخجل حياءك. تواضع يلامس حدّ نكران الذات، حتى وإن كان محدّثك وزيراً أو جنرالاً. زهد في الملبس لا يعكس مستوى الثراء أو الموقع الاجتماعي. صفات يعود بعضها إلى العقيدة الدينية، وبعضها الآخر إلى جدول الأعمال السياسي المعلن في «الدفاع عن المحرومين». لكن بعضها الآخر سببه إدمان تاريخي لدى الإيرانيين على ممارسة التقية بفعل أكثر من 2500 عام من الاستبداد. تقية تقوم على مبدأ «اكتم ذهابك (تحركاتك) وذهبك (مالك) ومذهبك (أفكارك)».
مستوى من الطمأنينة والسكينة يثير الدهشة. «وهل ما تراه مجتمعاً يستعد لحرب؟»، لازمة ترافقك أينما حللت. مشاهد تذكّرك بما تعرفه عن بَطَر أمراء الخليج ومشايخه، بل حتى مواطنيه، وما تلمسه من توتر دائم لديهم من هزّات عسكرية يتوقعونها في المنطقة.
في مقابل ذلك كله، هناك أمران يخرجانك من ملابسك ويدفعان بك إلى التساؤل عن سر استمرار مسيرة هذا البلد: انعدام الإحساس بالوقت وعطب بنيوي في عمل المؤسسات.
أناس يعيشون على مهل. الزمن بالنسبة إليهم خارج المعادلة الحياتية. المواعيد متحركة إلى حد يثير الحنق. ربما السبب يعود إلى نمط الإنتاج الزراعي حيث وحدة الزمن موسمية، وحتى الصناعي التقليدي (السجاد) حيث الوحدة نفسها تقاس بالأشهر لا بالدقائق أو الساعات، أو لعله يعود إلى زحمة السير الخانقة التي تمنعك من أداء أكثر من عمل خارجي واحد في اليوم نفسه.
وهناك أيضاً تلك الفوضى الإدارية وفقدان التنسيق الذي يجعل عملاً مشتركاً بين أكثر من إدارة، أو وزارة، مهمة شبه مستحيلة، تتغير في خلالها البرامج والمواعيد بوتيرة أسرع من تغيّر أسعار الأسهم في البورصة في أكثر الأيام حراكاً. حال أدت إلى ظهور مقولات من مثل: «اقرأ البرنامج ومزّقه، سيعطونك غيره بعد ربع ساعة»، أو «الحمد لله أنهم لا يعتزمون امتلاك سلاح نووي»، بل إلى رواج حكايات، تجمع بين النكتة والواقع، على شاكلة «صنع الإيرانيون صواريخ لاستدرار المطر. ألقوا واحداً منها في إيران، فأثلجت في أفغانستان».
واقع كهذا لا يعبّر بالضرورة عن حال إيران، حيث هناك دولتان وسرعتان. واحدة للنخبة التي نذرت نفسها وحياتها لخدمة «الجمهورية النموذج» والعقيدة المهدوية، دولة النظام التي لا تعرف العامة عنها شيئاً سوى ما تراه من نتائج لأعمالها في الداخل والخارج. وهناك دولة الحكومة، التي تطالع أخبارها في الصحف، وتحتك بها في الشارع والإدارات. دولة النظام تصنع مجد إيران ودولة العامة تصنع الحياة اليومية للإيرانيين. تركيز الاهتمام كله على «الأمور الاستراتيجية» له ما يبرره وفق مبدأ «الضرورة القومية». لكن العناية بالتفاصيل ضرورة إنسانية. عناية يستحقها سكان إيران الـ70 مليوناً، ويستحقها أيضاً زوارها.