Strong>أحمد بهاء الدين شعبان**«أنا لو أملك لقدمت استجواباً لوزير الداخلية على «الحنيّة الزائدة» في التعامل مع (الخارجين على القانون!)، إيه مجموعة 6 أبريل دي؟!... إحنا حنفضل نسيب تنظيمات غير شرعية لغاية إمتى!؟... بلّغ وزير الداخلية: إحنا 80 مليون نسمة... بناقص الشلة الفاسدة دي... دي تجاوزات وإثارة للفوضى، ولاّ يعني إحنا عاوزين انتفاضة الحرامية التي حدثت فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، ترجع تاني ولاّ إيه!؟... أناشد وزير الداخلية الضرب بيد من حديد!!... إضرب بالنار على طول... بلاش خراطيم المياه دي على المتظاهرين... دول خارجين على القانون!»
هذا المقتطف الطويل ليس فقرة من حديث إذاعي لمسؤول الدعاية النازي الأول، جوزيف غوبلز، صاحب المقولة الشهيرة: «كلما سمعت كلمة ثقافة... تحسست مسدسي!». إنّه جزء من حوار عاصف شهده مجلس الشعب المصري في الاجتماع المشترك للجنتي «الدفاع والأمن القومي» و«حقوق الإنسان»، لمناقشة الاعتداءات الوحشية التي تعرض لها شباب من حركات «6 أبريل» و«كفايه» و«الجمعية الوطنية للتغيير» وغيرها، في التظاهرة السلمية التي نظموها في الذكرى السنوية للإضرابات العمالية الدامية التي جرت يوم 6 أبريل/ نيسان 2008، في مدينة «المحلة الكبرى» العمالية. تلك التظاهرة التي شهدت صدامات عنيفة بين الأمن (الذي لم يتورع عن استخدام الرصاص الحي!)، والجماهير الغاضبة، المحتجة على تردّي الأحوال.
جرى هذا الكلام الخطير على ألسنة حسن نشأت القصّاص، نائب ما يُسمى بـ«الحزب الوطني» (الديموقراطي!)، تجمع المصالح المُعبِّر عن الزواج غير الشرعي بين رأس المال والسلطة في عصر الرئيس حسني مبارك، أو «التشكيل العصابي» الذي اختطف مصر، على حد تعبير الدكتور نادر الفرجاني، الخبير الاقتصادي المعروف، والذي يحتكر الحكم والثروة فيها، منذ ثلاثين عاماً!

دعوة للقتل باسم الدين خدمة للسياسة

وقد تبارى هذا النائب مع آخرين من نواب الحزب الوطني، وممثلي وزارة الداخلية، وأشياعهم من نواب (منشقّين) على بعض أحزاب المعارضة، مثل النائب رجب حميده، في كيل الاتهامات لمعارضي السلطة في مصر بالعمالة للخارج، والتحريض على مواجهة التظاهرات السلمية لدعاة التغيير، بالرصاص الحي. وذلك تحت زعم مختلق بأنهم «مموّلون، يتاجرون بأحلام الوطن، ويريدون فوضى خلاّقة»، كما قالتها كوندوليزا رايس. ثم، (وفي السكّة)، لا ينسى الشيخ رجب الذي كوّن ثروة هائلة من علاقاته بالنظام، «ردّ الجميل» للسلطة في أزمتها، والتلويح بهراوة الدين للانتقام من خصومه وخصوم الحكم: «...إننا لن نضع أيدينا في أيدٍ نجسة... أو مع الذين لا يسجدون لله!»... ثم يُزايد على جوقة النظام ذاته، أعضاء الحزب «الوطني»، في التحريض على إهدار دم المعارضين، وبالذات الشباب منهم: «إنني أعيب على (وزارة) الداخلية أنها لا تُعمل القانون، ولا تستخدم الرصاص... هل نريد أن نحرق وطناً كاملاً ولا نريد أن يسقط عشرات مقابل حماية الوطن؟».

من الذي يخدم مصالح أميركا وإسرائيل؟

والمدهش أن حديث الدم والرصاص هذا، جرى تحت قبة البرلمان الذي يفترض فيه أن يكون حارساً للحرية، ومدافعاً عن السلم والديموقراطية، لا محفّزاً لقتل المعارضين، و«تطهير» البلاد من «دعاة الفوضى الخلاقة» المزعومين، باعتبار أن كل حديث عن الديموقراطية في مصر هو، من وجهة نظر الطبقة الحاكمة، ترويج للمصالح الأميركية. وذلك رغم أن المصادر الأميركية والصهيونية لم تنفك تدافع عن وجود نظام الرئيس مبارك، باعتباره الحماية المؤكدة للمصالح الأميركية والإسرائيلية في مصر والمنطقة. وقد نشرت الصحف المصرية غير الحكومية، أخيراً، التحذير الذي أعلنه شلومو جازيت، رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية الأسبق، نقلاً عن موقع «News On»، والموجّه إلى الولايات المتحدة، لحضّها على الامتناع عن مطالبة النظام المصري «بعدم قمع المعارضة وانتهاج الديموقراطية في الانتخابات الرئاسية المقبلة!». لأن أي مطالبة من هذا النوع، كما يقول جازيت، «لن تؤدّي إلى تحقيق الديموقراطية للمصريين، بل إلى تقويض استقرار الحكم في القاهرة»، (وبالتالي زعزعة المصالح الأميركية والإسرائيلية التي يحميها نظام الرئيس مبارك، ويروّج لها!).

أزمة مُركّبة واحتقان تاريخي

المدهش أن حديث الدم والرصاص جرى تحت قبة البرلمان الذي يفترض فيه أن يكون حارساً للحرية ومدافعاً عن السلم والديموقراطية
وقد كان طبيعياً أن تنفجر عاصفة الرفض لهذا التطور الخطير الذي يدفع الوضع في مصر إلى مهاوي الحرب الأهلية، ويهدد بانفجار شلالات الدماء، في لحظة فارقة تتجه صوب وضع «احتقان تاريخي» لم تشهد مصر مثيلاً له منذ أزمة النظام الملكي، في أواخر أربعينيات القرن الماضي. هذه الأزمة التي قادت إلى انفجار الوضع في 23 يوليو/ تموز 1952، وها هي نذر لحظة لا تقل احتداماً، تتجمّع فيها عناصر أزمة هيكلية عميقة، مركّبة للنظام، مظهرها الأساسي تحلُّل جهاز الدولة التاريخية التليدة، وانفكاك عراه، وتبدّي عجز الحكم البيّن عن النهوض بأبسط واجباته، من أول تنظيف الشوارع التي تحولت إلى مقالب للقمامة ومصادر للتلوث والأمراض، حتى كفالة انسياب حركة المرور التي وصلت حدود الاستعصاء والشلل التام، ناهيك بالفشل في إدارة كل الملفات الرئيسية: الفقر والبطالة والصحة والتعليم والغذاء والمياه وملف المواطنة والهوية والدور الإقليمي والسياسة الخارجية والأمن القومي... إلخ، التي تشهد تدهوراً غير مسبوق في التاريخ المصري كله، دفع الدكتور فاروق الباز، العالم المصري الشهير، وشقيق أسامة الباز، المسؤول المصري البارز ، إلى التعبير عن هذا الوضع المزري، غير المسبوق، بقوله: «إن مصر لم تشهد تأخّراً، على مدار سبعة آلاف عام، مثلما يحدث هذه الأيام»!
هذه الأزمة المحتدمة الجديدة، وبما ترتب عليها من تداعيات داخلية وخارجية، لاستنكارها وإدانتها والتحذير من مخاطرها، والمطالبة بمحاسبة مطلقيها، هي إحدى مظاهر الصراع السياسي ــــ الاجتماعي المحتدم فى مصر، الذي تتصاعد وتيرته منذ نحو خمس سنوات مضت، قبل الانتخابات البرلمانية والسياسية الأخيرة، التي جرت عام 2005.

صيحة «كفايه» تفتح الطريق

فلم يكن حتى أكثر المراقبين تفاؤلاً، يتصور أن صيحة بضع مئات من المثقفين والسياسيين المعارضين الذين ألّفوا «الحركة المصرية من أجل التغيير» التي عُرفت باسم «كفايه»، بشعارها البسيط: «لا للتمديد... لا للتوريث»، ستطلق طوفاناً من حركات الاحتجاج السياسي والمطلبي، وتدفع جماهير «المعذّبين في الأرض»، من العمال والفلاحين والمهمشين، فضلاً عن الموظفين وأبناء الطبقات الفقيرة، وقطاعات من أبناء الطبقة الوسطى أيضاً، إلى كسر حاجز الخوف. فقد جرى النزول، بكثافة، إلى الشارع، اعتراضاً على التدهور المريع في أحوال عشرات الملايين من المصريين، وطلباً لـ«الخبز والحرية» وكذلك «الكرامة الإنسانية». وقد تمّ تجاوز كل «الممنوعات» وتحدّي هيبة النظام، إلى حد افتراش الأرض أمام مقارّ مجلس الوزراء ومجلسي الشعب والشورى، لأسابيع طويلة (إضراب المعوقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة دخل شهره الثالث)، والتقدم خطوات بالغة الأهمية، بمبادرة موظفى الضرائب العقارية (55 ألف موظف)، لتأسيس نقابتهم المستقلة، واضطرار النظام، خشية انفجار الأوضاع، لقبول الأمر الواقع الذي يتمرّد على وضعية هيمنة النظام على النقابات العمالية المستمرة لما يقرب من ستّين عاماً!

نظام مريض وتحدّيات خطيرة

والأخطر أن ما أشرنا إليه من تطورات، أتى في ظل الإعلان عن العوارض الصحية التي ألمّت بالرئيس مبارك، وألقت بظلالها المقلقة على وضع الرجل الذي بلغ عامه الثالث والثمانين، وتركت جهاز الحكم الشائخ مرتبكاً، مشلولاً، عاجزاً عن اتخاذ أي قرار، في غيبة الحاكم الفرد الذي كان يخضع للعلاج في ألمانيا.
ويزيد من حرج الوضع وتعاظم مستوى التحديات بالنسبة للسلطة، نزول رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية السابق، الدكتور محمد البرادعي، إلى حلبة الصراع على تغيير الدستور، كمقدمة لمعركة رئاسة جديدة، لن تكون مزحة، أو مسرحية هزلية كسابقتها، وخاصة مع التفاف عدد كبير من الشباب النشط الذي كان قد أدار ظهره للسياسة من حول البرادعي، في ظل محاولات مستمرة من قوى وحركات التغيير السياسي والاجتماعي إلى تطوير الوضع، وبناء آليات فعالة للعمل المشترك، تمكنهم من أن يقارعوا النظام بقوة، في ظل كل الاحتمالات المفتوحة، المتوقعة، والمنتظرة.
مصر على أعتاب تطورات خطيرة ستشهدها في الفترة المنظورة المقبلة، وهي حبلى باحتمالات عديدة على درجة بالغة من الأهمية، ليس فقط بالنسبة لهذه الدولة المحورية الكبيرة، بل بالنسبة لكل قضايا المنطقة وشعوبها، وفي سماواتها الملبدة بالغيوم، تتجمع بشائر الغد الجديد.
فإذا كان هذا الغد مُشرقاً، فالفضل فيه يعود، في المقام الأول، لكل قوى التغيير التي تناضل وتدفع ثمناً باهظاً عربوناً للحرية!
أما إذا حلت بالأرض المحروسة الفوضى، لا قدّر الله، فالمؤكد، كما يقول عالم السياسة المميز، الدكتور عمرو الشوبكي، «أن الحكم هو المسؤول عن حدوثها، لا كوندوليزا رايس»، كما ردد بعض نواب الحزب الحاكم في مجلس الشعب!
* من قصيدة للشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا
** عضو مؤسس في حركة «كفايه»