وائل عبد الفتاحالدولة هدّدت. مبارك أرسل التحذير المعتاد في أول ظهور له بعد محنة «المرارة» الغامضة. قال في احتفال تحرير سيناء: مرحباً بالحراك لكن لن نسمح بتحوّله إلى مواجهة وتناحر وصراع. مبارك أعلن أنه قائد التغيير منذ خمس سنوات ولن يسمح لأحد بأن يجعل «مستقبل الوطن في مهب الريح». لن ينتظر مبارك الريح. سيمنعها قبل أن تهدّد «الوطن».
هكذا استعاد الرجل، الذي كان مريضاً، «رئاسته». لم يفعل شىئاً سوى التذكير بقوّته. لا مبادرة إصلاح ولا مشروع جديداً يعبر بالبلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
قوة السيطرة في مواجهة «أمل اليائسين» في تغيير يهبط من السماء. ولهذه القوة سحرها القديم، لأن السؤال الذي ألحّ بعد تهديدات مبارك لم يكن: ماذا ستفعل المعارضة؟ بل ماذا سيفعل نظام مبارك في معارضة انفلتت ومسحت الخطوط الحمراء؟
المعارضة المنفلتة نفسها تنتظر رد فعل الدولة والجماهير التي روّضتها خلف الأسوار العالية. والجماهير تنتظر «بطولة» المعارضة. لا تكفيها استعراضات الانفلات الصغير. تنتظر «انقلاباً» يشبه انقلابات الضباط لكن من دون ضباط. والدولة تعرف أحلام شعبها وتعلن قوتها في مواجهة «صبيانية» تحلم بثورات «برتقالية» و«خضراء «من دون قوى ثورية» أو «دعم دولي».
«الدولة» في كامل يقظتها تنتظر مرور الزمن إلى لحظة الانتخابات. تتحايل على كل فِخاخ النقد الدولي لاستبدادها. تمرّر الفرص لتصل إلى لحظة تسيطر فيها على كل شيء: صندوق الانتخابات والمرشحين الذين يتصارعون حوله والموظفين الذين يحملونه ويعلنون ما فيه.
مبارك يذكّر الناس بأنه النظام ويذكّر النظام بأنه الدولة. والتهديدات للمعارضة أُعلنت من تحت رايات الجيش الثاني وفي قلب احتفالات النصر والتحرير. هكذا ليس لدى الدولة إلّا إعلان القوة في مواجهة انتظارات المجتمع. والمعارضة لم تفعل سوى توسيع دائرة الانتظار.
البرادعي دخل دوّامة الانتظار. مشروعه السياسي كله في انتظار استجابة النظام لمطالب تعديل الدستور. ورغم إشارات رعب النظام من «سفينة البرادعي»، فإنّ السفينة تدخل المياه الإقليمية للمعارضة وتقترب من أن تصبح جزءاً من «الحالة المصرية» بجروحها وعجزها ودورانها في متاهات الإحباط والانتظار.
البرادعي يعتمد على دفعة الأمل الأولى، لكنه من وقتها ينتظر الجماهير على قارعة الطريق. انتظار من دون جهاز سياسي يرسم إيقاع الحركة. جهاز البرادعي يعتمد عليه شخصياً، وهو لا يزال في مرحلة الدهشة، يعبّر عن إعجابه بكسر حاجز الخوف على طريقة برلين. دهشة محلّل سياسي لا «قائد» يطرح نفسه في لحظة مفصلية من تاريخ مصر.
البرادعي في رحلة تمتد شهراً، بينما مساعدوه يختلفون حول «النزول إلى الشارع» و«الدعم الأميركي»، بما يعني أنّ فيروسات المعارضة المصرية وصلت إلى جسم سفينة البرادعي بأسرع ممّا هو متوقّع.
ربما يتعلّم البرداعي من «التجربة والخطأ» ويتحرك بإيقاع الواثق بقوة «القانون» متجاهلاً قانون «القوة» التي يمكنها قبول المزيد من الشتائم، لكنها لن تترك سنتيمتراً واحداً من سلطتها، بإرادتها.
هكذا أخرج مبارك قوّته في مواجهة انتظار البرادعي، وربما كان هناك رهان على تدخلات دولية في صناعة مستقبل الحكم في مصر، وهذه قوة يطّلع عليها القريبون من العالم الخفي للسياسة، لكنها أيضاً قوة لا تعمل في الفراغ. تساند أو تدعم أو تضغط لمصلحة «كيانات» على أرض الواقع.
قوة «الخارج» صنعت «مناطق خضراء» لتضمن استمرار نفوذها وتركت كل شيء رهن الانتظار، أصبح النفوذ الخارجي هو الحقيقة الوحيدة في بلاد امتص الاستبداد قوتها الحيوية. الآمال كلها معلّقة بالضغوط الدولية تدفع النظام إلى «التغيير».
أوراق تغيير نظام مبارك في واشنطن لا في القاهرة. هذا ما يؤمن به حكماء المعارضة على كراهيتهم له، وينكره النظام على محبته له.
منذ ٣٥ سنة أرسى السادات حقيقة وجود أميركا باعتبارها مالكة ٩٩ في المئة من أوراق القضية الفلسطينية. الوجود الأميركي أصبح الحقيقة الوحيدة في القضية الفلسطينية، بعدما تسرّبت القوة الحيوية إلى الداخل بالتدريج، لتصل إلى حالة الانتظار نفسها: أبو مازن و«فتح» ينتظران موافقة «حماس» على الوثيقة المصرية للمصالحة، و«حماس» تنتظر موافقة إسرائيل على صفقة شاليط.
حال تتماثل معها حالة المعارضة المصرية التي ينتظر زخمها الشاب «التغيير»، بينما يعلن مبارك ونظامه «القوة». في النهاية تفرض إسرائيل بقوتها ما تريد، ويستمر مبارك في الحكم كما يحلم بالخلود.
خيارات القوة تهزم الانتظار في العادة، وربما تحتاج لحظة الفوضى الحالية إلى خطوة لم تجرَّب من قبل، يصنع فيها الانتظار قوته، مستمراً في ضغط متواصل، يخرجه من متاهة المنتظرين الأبديين (فتح وحماس في فلسطين) أو (المعارضة التقليدية في مصر).
حتى الانتظار يحتاج إلى نوع عزيز من الذكاء والثقة بالنفس وعدم الاتكال فقط على أنّ التغيير يأتي من واشنطن.