خالد صاغيةبدأت ترتفع الأصوات متبرّمةً من الانقسامات التي تشهدها القرى والبلدات اللبنانية. ففي الانتخابات البلديّة، تسقط الشعارات السياسيّة الكبرى، ويبدأ الصراع داخل ما يسمّى احتقاراً، الزواريب. الانقسامات الطاغية اليوم لا تلائم صورة اللبناني عن نفسه. ثمّة طغيان للعصبيّات العائليّة، وولع بالوجاهة، وشجارات على اسم شارع لم يصل إليه الزفت بعد. انتقل الحديث فجأة من الخطر النووي الإيراني والمشروع الأميركي في الشرق الأوسط إلى سجال على أيّ من العائلات أشدّ عراقةً في القرية، وأحقّ تالياً برئاسة البلدية. وبدلاً من الاستشهاد بآخر التحاليل السياسية، تُفتح ملفّات العمادات والأعراس والتعازي.
يجري النقّ كلّ يوم من طغيان هذه الصغائر على الفضاء العام. وإضافة إلى كمّ من المقالات الناقمة على ضيق الأفق هذا، لخّص وليد جنبلاط الموقف برسالة ساخرة امتنع فيها عن الإدلاء بموقف أسبوعيّ إلى جريدة «الأنباء» بسبب ما سمّاه «المعارك التاريخية» الدائرة في البلديات، وأعلن أنّه عاكف حالياً على قراءة ابن خلدون لفهم أسباب التخلّف عن الدول المتحضّرة. كأنّما البيك يرفض الإدلاء بجواهره وسط انشغال العامّة بالترّهات.
ولم يخطر في باله طبعاً الربط بين جواهره السابقة وهذه الترّهات. فالزعيم لا يكتفي بتوفير الظروف الملائمة لاستمرار العصبيّات وتوالدها، إلا أنّه ـــــ على ما يبدو ـــــ يستمتع في أوقات فراغه بالتفرّج على تلك العصبيّات والسخرية منها. فهي حقيقةً لا تليق بزعيم متنوّر.
والتفرّج على الحقيقة عاريةً مؤلم حقاً. لكنّه لا يمكن أن يقود إلى الاستعلاء أو التعاطف. فمن يمارس الحرتقات البلديّة اليوم هو نفسه الجمهور الذي نزل إلى الساحات في 8 و14 آذار. وهو نفسه الذي استجاب للتعبئة الطائفية العامة يوم دقّ الزعماء المتنوّرون النفير. لكن لا أحد رفع الصوت وقتها ضدّ العصبيّات أو التخلّف. بل اهتمّ الجميع بتوفير الغطاء الأيديولوجي لذاك الاستنفار. إنّه الاستقلال الثاني. لبنان الجديد. حرية، سيادة، استقلال... وفي الوقت نفسه، كان المقلب الآخر يهتف: إنّها الحرب على الاستعمار. إنّها الحرب على الفساد.
لم يقلق جنبلاط وغيره من السياسيّين والمحلّلين حين كانوا يجدون قناةً يصرّفون فيها تلك الصغائر. كانت العائليّة نعمةً حين تنبري لتجنيد الآلاف للنزول إلى ساحات الوغى. المتضايقون من العائليّة اليوم هم متضايقون حقاً من عدم القدرة على استغلالها سياسياً أو عقائدياً.
لقد ذهب السَّحَرة إلى الجحيم، وبقي السحر وحده يبيع الأوهام على الطرقات.