حسّان الزينربما الأجدى عقد المقارنة بين إلياس سكاف، الزعيم الزحلاوي، وميشال معوّض، ابن العائلة الزغرتاوية، لا بين سكاف وسليمان فرنجية، الزعيم الزغرتاوي. وربما الأفضل والأنضج منهجياً المقارنة بين سكاف من جهة وفرنجية ومعوّض من جهة أخرى. ليس في الأمر توزين، ما يجعل سكاف في حجم فرنجية ومعوّض معاً، بالعكس، سكاف لجهة الوزن السياسي هو، بحسب نتائج الانتخابات النيابية ووفق المشهد السياسي، أقرب إلى وزن معوّض وحده. وهما، أي سكاف ومعوّض معاً، لا يوازيان حجم فرنجية، الذي يستمد بعضاً من قوّته وحضوره من علاقته الشخصية والعائلية بالرئيس السوري بشار الأسد، لكنه مع هذا، استطاع بناء حيثيّة سياسيّة له تضعه وسط الطاقم السياسي في الصفّ الأول، ولو كان من الأصغر بين الكبار.
فرنجية الشاب، لا معوّض ولا سكاف، مهيّأ لأداء دور أوسع وأكبر على المستوى اللبناني العام. سكاف ومعوّض في هذا المضمار خارج دائرة الترشيحات. هما أقرب إلى الخسارة والتهميش دائماً. بينما أثبت فرنجية أنه قادر دائماً على الاستفادة من الخسارة وجعلها محطة لإعادة بناء الذات والتحالفات وصوغ الخطاب. كانت هذه حاله في السنوات الماضية التي أُخرج فيها من البرلمان والحكومة وانسحب فيها الجيش السوري من لبنان.
لا يتفوّق فرنجية على الإقطاعيين الآخرين، سكاف ومعوّض لسبب كاريزمي. فهو في هذا البعد أقرب إلى سكاف الذي لم يهبه الله ملكة الفصاحة. ومعوّض في هذه النقطة يتفوّق عليه، لكن القدر وضعه تحت عباءة الأم التي انتقلت إليها الزعامة دراميّاً بعد اغتيال الزوج ـــــ الأب، الرئيس الأول لجمهورية الطائف. ورغم ذلك، فللبعد الشخصي دور في المسألة.
الفارق بين فرنجية الشاب الذي آلت إليه شؤون الزعامة العائلية المناطقية وبين سكاف ومعوّض الوارثين أيضاً، هو أنه عرف مع السنين كيف يصوغ صورته كرجل ينضج ويتحكّم بأمور حياته ويتخذ موقفاً يثبت عليه ويبنيه من استراتيجيات أسلافه ومن براغماتية سياسية راهنة ومستقبلية. فيما يظهر سكاف في دور المتخبّط المتألم للخسارة والتهميش، مضيفاً إلى محدودية قدراته الكلامية تلعثماً سياسياً ناتجاً من عدم صوغه خطاباً واستراتيجيّة راهنين ومستقبليين ومن اكتفائه بميراث عائلي في الإقطاع. أما معوّض، فقد اكتفى بتكرار الخطاب الاستقلالي لقوى 14 آذار، فيما يبدو هذا الخطاب مصوغاً بلسان كبار التحالف الآذاري العريض وعلى مقاسهم، وحين وضع هؤلاء الخطاب والتحالف على الرف هُمِّش معوّض أكثر ليجد نفسه مضطراً إلى تهدئة الأجواء مع خصمه في المنطقة، زغرتا ـــــ الزاوية، الرابح في الانتخابات النيابية. صحيح أن فرنجية أيضاً يبدي مرونة مع غريمه معوّض، إلا أن الصورة من جهة فرنجية تبدو هدنة سياسية وتماشياً مع أجواء التوافق ـــــ التواطؤ على الانتخابات البلدية، أكثر منه حاجة انتخابية.
الشباب الثلاثة ما زالوا في أوّل الطريق في النادي الإقطاعي اللبناني. حماهم الله وهداهم السبيل والتوفيق. وقد عرف سكاف ومعوّض أن حلفاءهما من السياسيين الجدد (سمير جعجع بالنسبة إلى معوّض، وميشال عون بالنسبة إلى سكاف) يمثّلون خطراً زعامتياً عليهما في منطقتيهما. فطلّق سكاف حليفه عون واعتبر أن المزاج الشعبي في زحلة ضد تيّاره الوطني وحمّلهما مسؤولية الخسارة في الانتخابات النيابية. ومعوّض استدار عن حليفه جعجع ـــــ القوات اللبنانية، مفضلاً التواطؤ مع غريمه في المنطقة، فرنجية، على خسارة الدور الثاني في المنطقة، معتبراً أنه إذا نازل غريمه ضعف أمام حليفه (جعجع) وربما صار تابعاً له.
أما فرنجية، فليس في مثل هذا الوضع الحرج. هو لا يبدو أنه يتخلّى عن حلفائه بحسب الظروف الانتخابية أو السياسية، بل على العكس يبدو متمسّكاً بحلفائه، مرتقياً بكلامه السياسي والانتخابي إلى مستوى الخطاب والمبدئية. وإذ لا يقف في الدرجة الثانية، أي تابعاً لأحد، تراه يظهر حنكة فطرية ومكتسبة واستقلالية يعزوها تارة إلى تراث عائلي إقطاعي، وينسبها تارة أخرى إلى نفسه وخبرته وطبعه الشخصي.
لعل الواقع هو السبب الرئيس وراء اختلاف هذه «الزعامات» الثلاث وتفاوت قدراتها. فزعامة فرنجية تقوم على ركنين أساسيين: التميّز عن الزعامات المارونية السياسية التقليدية ومنتجاتها من دون التخلّي عن مصالح المارونية السياسية؛ والتحالف مع النظام السوري. وهذا ما يجعل لها سوقاً دائمة، فيما زعامة سكاف هامشية مذهبياً ومناطقياً في تركيبة النظام اللبناني. وإذ تتهددها دائماً زعامات أخرى، فإنَّ الحاجة السورية إليها محدودة، بقاعية وحدودية. ما يجعلها دائماً عرضة لتبدلات البورصة السياسية المحلية والسورية. أما زعامة معوّض فغارقة في المستنقع الأصعب والأضيق. تتنازعها رغبة التمرد على زعامة فرنجية واسترداد مكانة فقدتها في منطقتها، لكنها مكبّلة في محيط جغرافي وديموغرافي يضعها أمام خيارين: إما الانضواء تحت عباءة فرنجية، وهذا ما تنفر منه ويخنقها، وإما أن تمد يدها إلى محيط بينه وبين بيئتها خصومة وثأر تاريخيّان، لا يبدو الخروج منهما قريباً وسهلاً.
ورغم ذلك، ما زالت المسافة بين فرنجية ورئاسة الجمهورية هي نفسها المسافة بين الرابية وبعبدا أحياناً وزغرتا وبعبدا في أحيان أخرى. لكن المسافة بين معوّض وبعبدا أطول من المسافة بين زغرتا وبعبدا، حتى ولو انتظر أنيقاً في الحازمية المجاورة لبعبدا. أما المسافة بين سكاف ـــــ زحلة وبعبدا فأبعد من مسافة الفاتيكان وبعبدا حتى ولو زار بكركي من دون المرور في الرابية (عند عون) أو نام في قصر الضيافة في دمشق.
الإقطاع أيضاً، وربما أولاً، ملعون بالجغرافيا وبهذا البلد.