علاء اللامي *تقدّم المواجهة القضائيّة التي شاءها السيد فخري كريم ولي، كبير مستشاري الرئيس العراقي جلال الطالباني، ضد مجلة «الآداب»، مثالاً آخر على العلاقة المضطربة والمختلّة بين السلطات الحكومية في عالمنا العربي أو الأشخاص المرتبطين بها والمحميين بسلطانها، وبين الأصوات النقدية الحرة في عصر صار يوصف عادة بعصر التحرر الإعلامي والانفتاح الثقافي. كذلك فإنها تقدم، في الآن ذاته، مثالاً على التشابك والتعقيد الذي يسم العلاقة بين الشأن القضائي والفعالية الثقافية النقدية عموماً. لقد تحولت مقالة كتبها رئيس تحرير مجلة «الآداب» د. سماح إدريس، وناقش فيها واقعة حضور مئات المثقفين العرب مهرجان صحيفة «المدى» التي يديرها ويملكها الطرف المدّعي في كردستان/ العراق سنة 2007، فيما كان العراق يعيش آنذاك ذروة التذابح الطائفي والقمع الذي يمارسه الاحتلال الأجنبي وحلفاؤه، متعرّضاً بالنقد لممارسات واتهامات كالها آخرون مراراً لهذا الشخص... لقد تحولت هذه المقالة إذاً، إلى مواجهة ثقافية وقضائية واسعة...
وحتى بعدما حكمت المحكمة لمصلحته، ظل فخري كريم ولي، كما ينقل مقربون منه، يكرر في مجالسه الشخصية أنه «تورط» في هذه المواجهة لأنها فتحت عليه أبواباً ونوافذ لم يكن يتوقعها، وفتحت ملفات ما كان يريد لها أن تفتح، وأصبح اسمه وسيرته على كل لسان وقلم في الساحة الثقافية العراقية والعربية، وأطلقت حملة تضامن واسعة لا سابق لها على المستوى الإقليمي والعربي، كان لليساريين العراقيين ومناهضي الاحتلال من مختلف المشارب دورهم البارز فيها، تضامناً مع «الآداب» ورئيس تحريرها. لقد فضّل المدعي أن يمارس سياسة الهروب إلى الأمام، بعدما حاول استعمال الابتزاز والترهيب في مناسبات عدة: فقد طالب محاميه الطرف المدعى عليه ـــــ كما صرح هذا الأخير للصحافة ـــــ بأن يقول إنه لم يكن يقصد موكله بكلامه عن العلاقات التي ربطته بأجهزة استخباراتية معينة ليسحب ـــــ من ثم ـــــ الدعوى القضائية ضده، أو بأن يعتذر عما صدر عنه في مقالته موضوع الشكوى، فكان أن رفض د. إدريس بحزم هذه المساومات والابتزاز وتفتيش النوايا على طريقة محاكم التفتيش القروسطية، وفضّل أن يستمر في المواجهة النقدية في جانبها القضائي، رغم علمه بأن النهاية قد لا تكون لمصلحته لأسباب تتعلّق بالنظام القضائي اللبناني وبقانون مطبوعات قديم.
لقد حاول بعض الذين علّقوا على هذه الواقعة تفسيرها أو ردّها إلى خطأ غير مقصود وقع فيه المدعى عليه لأنه لم يدرج قائمة بمصادر معلوماته التي أوردها في مقالته، الأمر الذي أخرجها من خانة التحليل النقدي والتناول الأدبي السجالي إلى خانة الشأن الجنائي باعتبارها تتعلق بجنحة القدح والذم. وقد تكون هذه الفكرة على قدر معين من الوجاهة، لكنها لا تغيّر من طبيعة الخلاف بين نمطين من التفكير والسلوك: يتبنى الأول منطق السجال النقدي والتحليلي وأسلوبه لكشف الحقائق وإضاءتها أو تثبيت وتأكيد الموجود منها تنويراً للرأي العام، فيما يتسلح الثاني بهراوة الشرطي وقانون العقوبات ليحسم صراعه مع النمط الأول.
من حقّ ضحايا فخري كريم من العراقيين أن يجدوا في الحكم الذي أصدره القضاء اللبناني حكماً موجّهاً ضدّهم
لقد استعان الدفاع، وقبله المدعى عليه، بالعديد من الوثائق والأقوال والشهادات التي تجعل ما ورد في تلك المقالة موضوع الدعوى بشأن سلوك فخري كريم ولي ليس شيئاً جديدا، بل هو أقرب ما يكون إلى المكرر والذائع حتى حدود البداهة في الساحة السياسية والثقافية العراقية. وللمزيد من التوضيح، نود أن نضع أمام القضاء اللبناني حقيقة أخرى، ليست قديمة تماماً، ولكن لم يشر إليها أحد، وهي حادثة موثقة في وسائل الإعلام العراقية تؤكد بالملموس أن ما قيل بحق المدعي فخري كريم ولي لم يعد متعلقاً بشأن جنائي ولا هو داخل في باب القدح والذم، بل بمنهجيّة وسلوك سياسي شخصي يختطه المدعي، الذي هو ـــــ كما يعلم الجميع ـــــ شخصية عامة، يجوز بل يجب نقدها كما يفعل الناس في شتى بقاع العالم المتحضر. فقد كشفت الأوساط السياسية الكردية العراقية عن الدور الخطير الذي قام به فخري كريم ولي، داخل أحد أكبر الأحزاب السياسية وهو حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني، وقد أدى هذا الدور إلى انهيار هذا الحزب وانشقاقه قبل فترة. ومما يؤكد خطورة هذا الدور ويلقي ضوءاً ساطعاً على حقيقة ما قيل من اتهامات وانتقادات بحق فخري كريم، ومنه النقد الوارد في مقالة إدريس، أن مجموعة القادة الذين انشقّوا عن هذا الحزب طالبوا، قبل أي شيء آخر، خلال فترة الوساطات ومحاولات رأب الصدع بينهم وبين رفاقهم الآخرين في قيادة الحزب، بطرد فخري كريم من منصبه ككبير لمستشاريه وحمّلوا هذا المستشار مسؤولية كل ما حدث في الحزب من فساد واختلاسات وفقدان مبالغ كبيرة من المال تقدر بـ800 مليون دولار، هي حصة الحزب من عمليات تصدير النفط بطريقة غير مشروعة، ضمن ما عرف بـ«عقود نفط الشمال» التي ترفض الحكومة المركزية الموافقة عليها حتى الآن.
وقد تظاهر الطالباني أول الأمر بالموافقة على مطالب المنشقّين، ونشرت الصحف الكردية وغير الكردية العراقية خبر الموافقة والقبول بطرد فخري كريم من منصبه ضمن مجموعة من الإجراءات والتغييرات، بل زاد الطالباني على ذلك، فحمّل الشخص المعني مسؤولية كل ما حدث من خراب في الحزب، حتى إنه أطلق عليه لقب «سرطان الحزب الخفي»، لكنّه تحجّج بأنه ليس الوحيد الذي قرَّب هذا الشخص، بل إن غريمه التقليدي أي الزعيم الكردي الثاني مسعود البرزاني، كان قد سبقه إلى احتضانه وتقريبه وأهداه منزلاً في مدينة أربيل بهدف استغلال ما بحوزته من وسائل إعلام وما سمي «علاقات خارجية خاصة». ومعلوم أن الطالباني تراجع في ما بعد عن موافقته واتفاقاته التي أعلنها للمنشقين بعد ضغوط سلّطها عليه التيار الآخر في قيادة الحزب، الذي تقوده زوجته.
لقد نشرت هذه الوقائع في الصحافة العراقية وتناقلتها مواقع عديدة على شبكة النت، ومنها «الشعلة» في عددها الصادر في 21/2/2009 و«البديل العراقي» و«فاتحون» و«الدار العراقية» وجريدة «الدستور» في تواريخ مقاربة.
إن من حق ضحايا فخري كريم ولي من العراقيين، وهم كثر، وبخاصة أولئك الذين ناهضوا الاحتلال الأجنبي، أن يجدوا في الحكم الذي أصدره القضاء اللبناني حكماً موجهاً ـــــ وإنْ بشكل غير مقصود ـــــ ضدهم لأنه يبرئ الشخص الذي ألحق بهم الضرر، ولأن مُصْدِرَهُ قفز على عشرات الشهادات والوثائق التي قدموها في وسائل الإعلام ولم يتوقف عندها، وقد أورد محامي المدعى عليه في دفاعه العديد منها.
ومن الجدير بالذكر أن نجم فخري كريم بدأ بالأفول مع أفول نجم حاميه الرئيس جلال الطالباني والقوة السياسية التي يتزعمها وتحولها إلى قوة هامشية صغيرة لم تفلح في الحفاظ على ما كان بحوزتها من قوة جماهيرية وانتخابية، واكتفت بأقل من واحد في المئة من مقاعد البرلمان القادم (أحرز حزب الطالباني 13 مقعداً من مجموع 325 في الانتخابات التشريعية الأخيرة). كما أن حامي هؤلاء جميعاً، عنينا الاحتلال الأجنبي، على وشك طي صفحة مغامرته الاحتلالية والانسحاب خلال أشهر من العراق. وسيجد فخري كريم، وحتى جلال الطالباني، نفسيهما قريباً جداً، في مواجهة قضائية أخرى مع الكثيرين من الضحايا وذوي الشهداء، وفي مقدّمهم شهداء المجزرة التي ارتكبها الطالباني في «بشتآشان». وبانتظار ذلك اليوم، ليس لهؤلاء الضحايا ومن يمتّ بصلة لهم سوى تكرار تضامنهم مع د. سماح إدريس الذي يشاركهم الخندق ذاته، والأمل ذاته، مكررين معه ما قاله بعد صدور الحكم عليه: الانقراض سببه القبول به! نبقى إذا قررنا البقاء، وننقرض إذا حكمنا على أنفسنا بالموت. علينا أن نتضامن في ما بيننا كي لا نموت.
نقترح ختاماً، أن يقوم الطرف المدّعى عليه بجمع كل الوثائق والأحكام الخاصة بهذه الدعوى وترجمتها إلى عدد من اللغات الحية ونشرها في كتاب يكون شهادة معاصرة على آخر محاكمة تفتيشية للضمائر والنوايا.
* كاتب عراقي