أمين الياس *يتضمّن مقال ألبير داغر «عروبة الموارنة» («الأخبار»، 21/4/2010) الكثير من المغالطات التاريخية التي تصل إلى حد التناقض أحياناً مع المصادر العربية الإسلامية والمصادر المارونية في آن معاً.
وليس غرضنا من مقالنا هذا الرد على توجّه الأستاذ ألبير داغر العربي، وذلك إيماناً منّا بأن كل إنسان يتمتع بحرية الضمير للتعبير عمّا يشاء والإيمان بما يشاء. ولعلّ مقالته عن «عروبة الموارنة» كانت قد أصابت هدفها أكثر لو اكتفى الأستاذ داغر بالدفاع سياسياً عن توجهه ورغبته بأن «يستخدم الموارنة إمكاناتهم في القضايا العربية». إلا أن إقحامه التاريخ في طرحه هذا، أفقد المقالة الكثير من وزنها، وخاصة لما تضمّنته من عدم إلمام واضح بالمنهجية التاريخية، وعدم اطلاع على المدارس الغربية المتقدمة في كتابة التاريخ.
إن نقطة ارتكاز الأستاذ داغر تتمثّل في نظرية المؤرخَين كمال الصليبي وفرج الله صالح ديب التي تؤكد أن «الموارنة من القبائل العربية الأكثر تأخّراً قبل الفتح الإسلامي في ترك الجزيرة العربية». كان حريّاً بداغر، وهو أستاذ جامعي، أن يتحرّى عن صحة هذه النظرية وإذا ما كانت تقوم على مقوّمات علمية مقبولة عالمياً أم لا. وهنا يجدر الذكر أن نظرية الصليبي المرتكزة على «إقامة الرابط بين الأمكنة وأسمائها في بلدَي الأصل والاستيطان»، والتي بنى عليها ديب كل أبحاثه في ما بعد، هي النظرية نفسها التي استعملها الصليبي في كتابه «التوراة جاءت من الجزيرة العربية» ـــــ The Bible came from Arabia. إن هذه النظرية كانت من الركاكة بمكان أن معظم المتخصصين في هذا المجال، وخاصة في العالمَين الفرنكوفوني والأنغلوفوني لم يعيروها أهمية، وبالتالي لا يمكننا أبداً البناء عليها لحسم مسألة أصل أي شعب، بما في ذلك الموارنة. كما كان على الأستاذ داغر أن يقرأ الانتقادات الواسعة لكتاب الصليبي «بيت بمنازل كثيرة»، التي كان أهمها للمؤرخ الكبير جان شرف في مجلة «الدفاع الوطني»، التي انتقد فيها عملية «أدلجة التاريخ» التي قام بها الصليبي في كتابه هذا.
إلا أن داغر لا يتوقف عند هذا الحد المتمثّل بالبناء على نظريات وهمية، بل وصل الأمر به إلى عرض معلومات تتناقض تماماً مع المصادر الإسلامية. ولعلّ الدليل الأبرز على ذلك ادّعاؤه أن المسلمين لم يكن لهم أي دور في هجرة الموارنة الثانية من سوريا إلى لبنان. وهنا نحيل الأستاذ داغر والقرّاء إلى المؤرخ العربي المسعودي الذي أتى في كتابه «التنبيه والإشراف» على ذكر خراب دير مار مارون في النصف الأول من القرن العاشر، وبالتالي هجرة الموارنة نهائياً من سوريا إلى لبنان. فيقول «خرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن بين الأعراب وحيف السلطان». فممّا لا شك فيه أن البيزنطيين لعبوا دوراً كبيراً في تهجير الموارنة، إلا أن الفتن ما بين المسلمين وظلم الحكام العرب كانا أيضاً سبباً أساسياً في تهجيرهم إلى لبنان.
ثم نراه أيضاً يقع في مغالطة فادحة عند قوله إن «الموارنة لم يكتبوا مرة بغير العربية». وهنا أيضاً ندعو الكاتب والقرّاء لزيارة مكتبة جامعة الروح القدس ـــــ الكسليك لمعاينة آلاف المخطوطات المارونية المكتوبة باللغة السريانية، فضلاً عن الآلاف من المخطوطات الأخرى الموجودة في مكتبة الفاتيكان والمكتبة الوطنية في فرنسا والمتحف البريطاني. كما أننا نذكّر الكاتب بأن أحد أهم المصادر المارونية، وهو كتاب «الهدى» الذي يعدّ دستور الطائفة المارونية في القرون الوسطى، قد وُضِعَ باللغة السريانية وتُرجم في ما بعد إلى اللغة العربية.
الغموض المتحكّم بمفاصل مقال ألبير داغر لا يقف عند التطرق إلى تاريخ الموارنة وحسب، بل يتعداه إلى العروبة ذاتها
إن كل هذه الأخطاء الفادحة تطرح العديد من علامات الاستفهام حول إلمام الأستاذ داغر بتاريخ الموارنة. ذلك أن غياب التحرّي عنده ووقوعه في تناقض حتى مع المصادر الإسلامية يضعان كل مقالته في موضع الشك والرفض. لكن الخطير في الأمر أنه استعمل هذه الحجج الخاطئة باسم التاريخ لصبغ الموارنة بصبغة العروبة، ولا نظن أن الموارنة بحاجة لتحوير الحقائق التاريخية لتثبيت هويتهم. إلا أن الإبهام والغموض المتحكّم بكل مفاصل هذه المقالة لا يقف فقط عند التطرق إلى تاريخ الموارنة، بل يتعداه إلى العروبة ذاتها. فكل ما كان يهم كاتب هذا المقال لم يكن سوى لصق صفة العروبة بالموارنة، دون أن يشرح لنا ما هي العروبة وما هو تحديدها. فهل العرب متفقون أولاً على تحديد هذه العروبة وماهيتها؟ هل هي الإسلام، أم إنها تفصل الدين عن الدولة؟ ما هي حدودها الجغرافية؟ ما هو اقتصادها؟ ما هو نظامها أمَلَكي أم أميري أم جمهوري؟ وهنا نذكّر بما قاله الفيلسوف الكبير رينيه حبشي إن «كل نقد علمي يضيّق فكرة العروبة» (حضارتنا على المفترق). فالعروبة حتى يومنا هذا لم تكن سوى «وصف وليس وجوداً». ذلك أنها لم تستطع أن تتجسّد في كيان سياسي عربي موحّد، وها هي كل تجارب الوحدة العربية منذ أوائل القرن الماضي إلى يومنا هذا، قد باءت بالفشل. حتى أن العرب حالياً لم يعودوا متّفقين على «أمّ القضايا العربية»، ألا وهي «القضية الفلسطينية». فعن أيّة عروبة وأية قضايا عربية يكلّمنا الأستاذ داغر!
إن ذهاب الأستاذ داغر إلى حسم مسألة أصل الموارنة بأنهم من القبائل العربية التي أتت من الجزيرة العربية لا يعدو كونه مشهداً هزلياً. حتى ليخال للقارئ أن مار مارون بنى منسكه في الجزيرة العربية وليس قورش، وأن الرهبان الذي اتّبعوا طريقته النسكية ليسوا سوى من الأعراب الذين يلبسون الكوفية. فإن كان الأمر كذلك، فلماذا لم تذكر التواريخ الإسلامية أية إشارة إلى هذا الأمر، وكذلك التواريخ والمخطوطات المارونية؟ ثم أين هي النقوش الأثرية المكتشفة في الجزيرة العربية التي تشير إلى وجود ماروني في هذه المنطقة؟
إن الأصول التاريخية والدراسات الرصينة والعلمية كلها تشير إلى أن الموارنة ليسوا قبيلة. بل إنهم مذهب فكري ونسكي ولاهوتي، تمثّل بالطريقة النسكية التي ابتكرها القديس مارون أواخر القرن الرابع. وقد اقتبس العديد من النسّاك في منطقة قورش هذه الطريقة، وهؤلاء يذكرهم تيودوريطس أسقف قورش في تاريخه «تاريخ أصفياء الله». وفي عام 452 (بحسب المؤرخ العربي أبو الفداء)، بنى الإمبراطور البيزنطي مرقيانوس دير مار مارون في أفاميا حيث أقام الرهبان الموارنة. وهكذا بدأت الجماعة المارونية بالتكوّن حول هذا الدير، وبدأت لفظة موارنة تطلق على الرهبان وعلى الناس المنتسبين إلى هذا الدير في آن واحد. ثم إن الصراعات الدموية ما بين المسيحيين بسبب خلافاتهم العقائدية، ومجيء المسلمين إلى سوريا وما رافقه من أحداث واضطهادات من جانب البيزنطيين والعرب، كلها عوامل أدت إلى هجرات متلاحقة للموارنة إلى جبل لبنان حيث اختلطوا بالسكان الأصليين فيه ليكوّنوا طائفة واحدة بقيادة البطريرك الماروني. وبالتالي إن الموارنة ليسوا عرقاً صافياً لا عربياً ولا فينيقياً بل جماعة تكوّنت وتطورت عبر الزمن الطويل (انظر «تاريخ الموارنة» للأسقف بطرس ديب، و«نيابة طرابلس في عهد المماليك» للمؤرخ الياس قطار، و«الأيديولوجية المجتمعية» للمؤرخ جان شرف، و«المارونية لاهوت وحياة من جبال قورش إلى سهول أفاميا» للأباتي بولس نعمان).
ينقل الأب العلّامة يواكيم مبارك في خماسيته المارونية عن كمال جنبلاط في وصفه المارونية ما يلي: «من المهم، لفهم المارونية، أن نعود إلى المسيحية الأولى التي انتشرت في الوسط الآرامي المعاصر مباشرة ليسوع المسيح والرسل. إن مسيحية بلادنا اتّسمت بهذا الطابع الآرامي الشرقي الذي يميّزها عن الكنائس الأخرى. وقد حافظت المارونية على هذا الطابع عبر التاريخ ولحين توثيق علاقاتها مع البابوية الرومانية. إن هذا الوجه المميّز نعرفه منذ أن هاجر الموارنة ضفاف العاصي السورية...».
إن هدفنا الوحيد من ردنا هذا هو إبراز خطورة تحوير التاريخ لأغراض أيديولوجية. فالتاريخ ليس وجهة نظر، بل هو علم وموضوعية ووضوح ومناهج. فلا يجوز زجّ التاريخ في إشكاليات كالقول إن الموارنة عرب أو فينيقيون. فاتركوا التاريخ حرّاً من الأيديولوجيات والحقائق المسبقة، فهو كفيل باكتشاف الماضي وتوضيحه دون تحوير أو تزييف.
* طالب دكتوراه تاريخ في جامعة لومان الفرنسية