الدعاية الصهيونيّة لا تكلّ. أما الدعاية العربيّة (الرسميّة) فمشغولة بالترويج لمبادرة التطبيع السعودي في إعلام الرجل الأبيض. آل سعود يعملون لأجلكِ (يا إسرائيل). في المقابل، الكلام يزداد ارتفاعاً عن زوال إسرائيل. وإسرائيل كانت دوماً تختار ما تشاء من الشعارات لرسم أبشع صورة لأهداف العرب في فلسطين. كان العرب يقولون بتحرير فلسطين، وكانت إسرائيل تقول: إنهم يبغون تدمير إسرائيل ويريدون «رمي اليهود في البحر». لم يرد عليهم العرب بالقول: لكن إنشاء إسرائيل كان الاسم الآخر لتدمير دولة فلسطين. فالأنظمة العربيّة كانت مشغولة آنذاك بالتوصّل إلى أفضل السبل لخدمة المُستعمر
أسعد أبو خليل *
الدعاية العربيّة الرسميّة مقيتة وغبيّة منذ البدء رغم محاولات جادّة لإنقاذها على يد أمثال وليد الخالدي وسامي هداوي وفايز صايغ وألبرت حوراني (في السنوات المبكّرة) وشفيق الحوت وغسان كنفاني وصادق العظم وإدوار سعيد وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد، بصرف النظر عن أي تقييم سياسي للأفراد المذكورين. لم تجد الأنظمة حاجة للردّ على أكاذيب إسرائيل. أثقلت إسرائيل أسماع الغرب على امتداد عقود بأن العرب وعبد الناصر بالتحديد يقولون بلغتهم إنهم يبغون «رمي اليهود في البحر». ثم استقرّوا على نسبة القول إلى أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، أحمد الشقيري. وأقسم الشقيري أغلظ الأيمان بأنه لم يتلفّظ بالعبارة قطّ، وهو محقّ في ذلك (على تهريجه الخطابي وتنقّل أهوائه بين السعوديّة والنظام الناصري). لم ترد العبارة في خطب عبد الناصر إطلاقاً. وجدتُ العبارة بعد بحث في خطبة لمؤسّس حركة الإخوان المسلمين، حسن البنّا، في مجلّة «المصوّر» المصريّة عام النكبة. لكن الصهاينة يخترعون ويلفّقون ويكذبون من دون وازع وحتى من دون ردّ عربي جدّي. لماذا تعين الأنظمة العربيّة عن قصد أو عن غير قصد، أو عن الاثنيْن معاً، المقاصد الإسرائيليّة؟
كان سهلاً على العرب الردّ أن التهديدات بالتهجير والطرد القسري والقتل والترهيب (قبل أن تدرج كلمة «إرهاب») جاءت على لسان الصهاينة حتى قبل تنفيذ مخطّطاتهم. ثيودور هرتزل، هذا الذي لم يأخذه العرب على محمل الجد، لم يخفِ أهداف الحركة الصهيونيّة عندما استشهد بالمثل الفرنسي عن «من يقصد النهاية، يقصد الوسائط». يوسف ضياء الخالدي كتب رسالة إلى الأول يحثّه فيها على عدم «التغاضي عن حقائق الواقع» في أرض فلسطين، وكأن الحركة الصهيونيّة تحتاج إلى حجّة قويّة لتغيير مخطّطاتها، مثل هؤلاء المتعلّمين العرب (والمتعلّمات) في الغرب الذين يظنّون أن تقديم الحجّة القويّة لإسرائيل كافية لتغيير سياساتها (هذه سمة التطبيع القَطَري مع إسرائيل مثلاً). نجحت الصهيونيّة في تعريف أهداف العرب كما تريد هي لا كما قصد العرب، بصورة لا يرقى الشك الغربي إلى نيّاتهم التدميريّة والعدوانيّة على أثر الحرب العالميّة الثانيّة والمحرقة، كما أنها نجحت في تعريف زائف وكاذب بأهدافها هي من دون أي ردّ عربي مضاد لها. صحيح أن الجبهة الديموقراطيّة والجبهة الشعبيّة وقطاعاً خارجياً في حركة فتح حاولت في الستينيات والسبعينيات أن تدخل المعركة الدعائيّة المضادة وإن متأخرةً، لكن النجاح لم يكن من نصيبهم. يكفي أن ياسر عرفات كان الصوت والصورة للقضيّة الفلسطينيّة، وهو كان في الدعاية أفشل من الحاج أمين ومن أحمد الشقيري، وخصوصاً عندما كان يصرّ على التحدّث باللغة الإنكليزيّة.
اختلفت المواقف العربيّة من القضيّة الفلسطينيّة. بعض الأهداف العربيّة لخّصته أجهزة الدعاية الصهيونيّة بعبارة «تدمير إسرائيل» و«رمي اليهود في البحر». كما أن الدولة الغاصبة روّجت لأكاذيب عن العبارات والأهداف العربيّة. كانت تحاول أن تساوي بين أهداف منظمة التحرير والنازيّة، لكنها اصطدمت بجدار سميك من اللغة الرصينة والعلمانيّة في الخطاب الفلسطيني حتى في أيّام الحاج أمين الحسيني، فلجأت إلى بث تلك الصورة بين الحاج أمين وهتلر. واللقاء بين الاثنيْن كان يتيماً (لا دليل على أن لقاءً ثانياً قد عقد، كما يخبرني فيليب مطر، كاتب أفضل سيرة عن الرجل والمُنقّب في أوراقه) ولم يكن هناك اتفاق بمعنى الاتفاق. كان الاثنان يتفقان على معاداة بريطانيا، وكلّ لأسبابه. وليس خافياً أن عنصريّة هتلر تضمّنت عنصريّة ضد العرب وإن كان قد رفع مرتبة العرب في سلّم التراتبيّة العنصريّة النازيّة لأنه وجد أن الحاج لم يكن داكناً كما تصوّرت مخيّلته. أصبح اللقاء اليتيم موضوعاً لملصقات ولكتب ومنشورات إسرائيليّة للتأثير على الرأي العام الغربي المُثقل بهول المحرقة (ومسؤوليّة الغرب عنها). قرّرت الصهيونيّة في الستينيات أن عبد الناصر وأحمد الشقيري أعلنا للعرب قبل حرب 1967 هدف «رمي اليهود في البحر». (تحاشت الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى في الثلاثينيات الخطاب المعادي لليهود، كيهود، وكانت حركة حماس في انطلاقتها الأولى أول تنظيم فلسطيني يلجأ إلى المجاهرة بالعداء لليهود (خفض هذا الاتجاه عند حركة حماس ربّما لعلمها بمدى خدمة الخطاب العربي المُعادي لليهود للقضيّة الصهيونيّة في الغرب...).
عبارة «رمي اليهود في البحر» استعملها حسن البنّا ولم ترد إطلاقاً في خطب عبد الناصر والشقير
ولكن لم يخطر للعرب يومها أو حتى اليوم تظهير الخطاب الصهيوني المجاهر بالعنصريّة والنيات التدميريّة. تترجم منظمّات صهيونيّة ذات تمويل كبير كل كلمة ينطق بها عربي يُشتم منها عداء لليهود كيهود. حتى أن المنظمات الصهيونيّة في الغرب تستعين بتلك النماذج (إن من إعلام حماس أو من خطب أحمدي نجاد) كي تستجدي تبرّعات سخيّة من مناصريها. لكن الخطاب الصهيوني لم يكن يوماً خجولاً في التعبير عن الأهداف الصهيونيّة. فقد كان هرتزل المُؤسِّس صريحاً في دعوته إلى دفع العرب نحو الصحراء. وفيما كانت الدعاية الإسرائيليّة تصدح عام 1967 بأقوال مختلقة عن نيّة العرب لتدمير إسرائيل ورمي اليهود في البحر، أصدر قائد سلاح الجوّ الإسرائيلي ماتي هود صبيحة 5 حزيران أمر اليوم وجاء فيه: «طيروا، حلّقوا نحو العدوّ، دمّروه وشتّتوه في الصحراء كي تحيا إسرائيل، آمنة في أرضها ولأجيال (لاحقة)». (راجع النص في كتاب مايكل أورن، «ستة أيام من الحرب: حزيران 1967 وتشكيل الشرق الأوسط المُعاصر»، ص 170). لم تجهد الأنظمة العربيّة، ولم تكترث لترجمة خطاب العداء والتدمير عن العدوّ، بل انصرفت إلى طبع خطب قادتها في مجلّدات نفيسة وفي أكثر من لغة. صدّام حسين لم يرتدع في غروره: نشر كتيّباً بأكثر من لغة بعنوان «كيف نخاطب العقل الغربي». أي إنه اعتبر نفسه نموذجاً ناجحاً في مخاطبة الغرب. طبعاً، لم يتقدّم الإعلام العربي قيد أنملة، بل تأخّر: من نموذج أحمد سعيد إلى نموذج طارق الحميّد.
والخطاب الصهيوني ازداد صفاقة في إعلان خططه التدميريّة، فهو يكرّر اليوم رغبته بإعادة سوريا أو لبنان أو غزة إلى العصر الحجري. طبعاً، لا يجد هذا الخطاب أدنى استنكار في الغرب الذي يتابع أوّلاً بأول شبكات تلفزيون حماس وحزب الله ليرى إذا كان هناك إهانة لأي يهودي. لهذا، وبسبب انتشار المنطق الساداتي في مراضاة إسرائيل، ذهب الخطاب العربي الرسمي من المجاهرة السعوديّة بكراهية كل اليهود (وكل المسيحيّين وكل الشيعة وكل اليساريّين وكل السافرات) إلى خطاب يتودّد ليس فقط لإسرائيل بل لليهود كوسيلة للتقرّب من واشنطن (تنبع هذه الفكرة طبعاً من منظار كلاسيكي مسيحي معادٍ لليهود ـــــ أي من نظريّة «المؤامرة اليهوديّة» السخيفة التي تروّج لفكرة حكمهم لأميركا والعالم قاطبة).
في المقابل، أعاد الخطاب الرسمي الإيراني وبعض خطب حسن نصر الله الكلام عن زوال إسرائيل أو عن إزالة إسرائيل. وزوال إسرائيل يختلف كصياغة هدف عن إزالة إسرائيل. الزوال يقترب من كلام لينين في كتابه «الدولة والثورة» عن اضمحلال الدولة. (العبارة جاءت بداية على لسان فريدريك إنغلز)، فيما الإزالة تقتضي فعلاً مؤثّراً. ويتحاشى العرب اليوم استعمال كلام ينطوي على معنى تدمير إسرائيل، مع أن الخشية غير مبرّرة. فنيّة التدمير، إذا لم تقترن بقوّة حقيقيّة تُقاس بمعايير التسليح المعاصر، تصبح مضحكة للغاية. كأن يهدّد لبنان أميركا، مثلاً، مستعيناً بطائرات إلياس المرّ التي «اضمحلّت» والتي ساهم الإعلام اللبناني في اضمحلالها، وإن لم يكن لذلك علاقة بإكراميّات أبي الياس الشهيرة. أما نيّة إسرائيل التدميريّة فهي لا تحتاج إلى خطب ناريّة: يكفي رصد تراكم أسلحة الدمار الشامل لدى الكيان الغاصب لإدراك الخطر التدميري الذي تمثّله إسرائيل على العرب بدعم من أميركا، التي وعدت رسميّاً منذ حقبة رونالد ريغان بضمان التفوّق العسكري والتكنولوجي للدولة اليهوديّة ضد أي تشكيل عدو من الأنظمة العربيّة. ولكن يجب التمييز بين خطاب أحمدي نجاد عن زوال إسرائيل أو إزالتها وإشارة حسن نصر الله إلى مسار المعركة المُقبل. فخطاب نجاد يقترن بخطاب التشكيك بالمحرقة (لنا عودة قريباً إلى موضوع التعاطي العربي مع المحرقة والمسألة اليهوديّة) الذي ينفع الدعاية
الصهيونيّة.
لكن بعض خطب حسن نصر الله الأخيرة تلمّح إلى شيء، ما يمكن أن يؤدّي إلى إزالة إسرائيل أو زوالها. ويخجل العرب اليوم من الخطاب الداعي لإزالة إسرائيل، أو حتى تدميرها. وهدف تدمير إسرائيل ليس مساوياً لما يسمّيه دانييل غولدهاغن الأيديولوجيا التي تهدف إلى إزالة عرق من البشر أو طائفة. حتى هدف تدمير إسرائيل يجب بالضرورة ألا يعني القضاء على الشعب اليهودي، بل يمكن أن يعني ما ورد في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينيّة (غير المعدّل من بيل كلينتون) عن إزالة الصهيونيّة من أرض فلسطين (أي تفكيك بنيان الدولة).
وإزالة إسرائيل يمكن أن تتمّ جرّاء معركة ساحقة ماحقة يشنها العرب على إسرائيل. هذا النوع من النزال مستبعد إن لم يكن مستحيلاً، لأن الولايات المتحدة أنتجت واقعاً جديداً منذ بزوغ الساداتيّة في مصر. أحكمت الولايات المتحدة السيطرة على مقدّرات الحكم السياسي والعسكري والاستخباراتي في مصر لحماية إسرائيل. لم يطل الأمر بالدول العربيّة لتنصاع هي الأخرى من أجل كسب ودّ الولايات المتحدة. أرادت الولايات المتحدّة إبعاد مصر عن أيّ مواجهة عربيّة ضد إسرائيل حتى تحمي الأخيرة من حروب عربيّة مشتركة. أنفقت الولايات المتحدة المليارات على تثبيث حكم تسلّطي مصري لضمان أمن إسرائيل. الدول العربيّة الأخرى ليست، ولم تكن يوماً، في وارد مواجهة إسرائيل. الحكم الأردني لم يتوقّف عن التآمر على قضيّة شعب فلسطين حتى قبل إنشاء الكيان
الغاصبإن خطة أميركا بعد حرب تشرين تركّزت على منع العرب من مجرّد التفكير في شنّ حرب (محدودة أو شاملة) على إسرائيل مع أن لا النظام المصري ولا النظام السوري كان في وارد القضاء (في الخطة العسكريّة) على إسرائيل، بل لتحرير بعض الأرض (غير الفلسطينيّة). ما عادت الأنظمة العربيّة تعد شعوبها زوراً بتحرير فلسطين أو بالقضاء على إسرائيل. أقصى ما تذهب إليه الأنظمة العربيّة اليوم هو التهديد بـ«سحب» المبادرة العربيّة إذا لم ترعو إسرائيل في غضون بضعة عقود من الزمن. هناك طبعاً، إمكان حصول إيران على السلاح النووي. واستعماله ضد إسرائيل قد يكون جزءاً من التلميح الذي بات يرد في خطب أحمدي نجاد، لأن قدرة إيران على شنّ حرب كلاسيكيّة على إسرائيل محدودة، وخصوصاً أن الحليف السوري لإيران ليس في الوارد هو أيضاً.
ثم، هل سيؤدّي رمي قنبلة نوويّة على إسرائيل إلى زوال الكيان الغاصب؟ الجواب محفوف بشروط وبظروف لا يمكن التكهّن بها لأن ذلك يقتضي معرفة سياق تلك المعركة (الردّ النووي الإيراني إذا أتى سيُواجه بردّ إسرائيلي مُقابل إذا كان لإسرائيل بعد الضربة الأولى القدرة على الردّ، مع أن قدرة إيران على استيعاب الضربة النوويّة أكبر من قدرة إسرائيل). ثم هناك الجوانب الأخلاقيّة والإنسانيّة والسياسيّة: كيف يمكن أن تُرمى إسرائيل بالنووي من دون إيذاء عدد هائل من العرب هناك، حتى لا نتحدّث عن أطفال ونساء يهود بصرف النظر عن الدين والعرق؟
تبقى مسألة زوال إسرائيل، أي اضمحلال إسرائيل التدريجي، وهذا السيناريو هو المُرجّح. في غياب خيار حرب من تشكيلة من الأنظمة العربيّة، فإن قدرة إسرائيل على الاستمرار ضعيفة جداً بالمنظار التاريخي. وحسن نصر الله بات يكرّر الإشارة إلى شيء ما قد يحدث ويعيد رسم خريطة المنطقة في المواجهة المُقبلة مع إسرائيل. طبعاً، أبواق آل سعود يُصابون بالهلع الشديد عندما يسمعون عن إزالة إسرائيل أو زوالها. لا شك بأن حلفاء آل سعود في المنطقة العربيّة عوّلوا (ويعوّلون) على إسرائيل ليس فقط للتخلّص من أعدائهم (وأعداء إسرائيل) بل أيضاً لحمايتهم عندما تدعو الضرورة. لم تُنشر بعد كل أحاديث فريق 14 آذار وما قالوه في حرب تمّوز: ليس هناك من رصد منشور لما قالوه وفيه حماسة لقدرة إسرائيل على التخلّص من حزب الله. الأكيد أن مشروع القضاء على حزب الله (وعلى حماس بعد ذلك) مُني بفشل ذريع رغم إصرار مستميت من دوري شمعون (رئيس الحزب الذي رعى سعد حدّاد وأنطوان لحد من بعده) أن إسرائيل لا يُمكن أن تُهزم عسكريّاً وأن بقدرة إسرائيل النصر المُبين متى أرادت. أي إن دوري شمعون يؤمن بأن إسرائيل اختارت ألا تنتصر لأنها بعيدة عن الوحشيّة. يسخر دوري شمعون من مقولات أي انتصار عربي على إسرائيل، في الماضي أو في المستقبل. لا ندري إذا كان حسن نصر الله يتحدّث عن هزيمة إسرائيل بالنقاط أو بالضربة القاضية لكن الاحتمال الأول أقوى. بدت إسرائيل في حرب تمّوز على غير عادتها وشاكلتها. كانت في مسلكها وفي دعايتها أقرب إلى مسلك الأنظمة العربيّة المهزومة في حرب 1967. ارتباك وتعثّر ولجوء إلى كمية كبيرة من الكذب والتلفيق. من نسي الزعم الإسرائيلي عن وجود ثلاث جثث لجنود إيرانيّين في أرض المعركة في جنوب لبنان؟ (طبعاً هلّل الإعلام السعودي والحريري للخبر وأعاد تكرار بثّه إمعاناً في إلهاب الفتنة المذهبيّة وفي عزو دوافع أهل الجنوب للدفاع عن أرضهم بوجه المُعتدي إلى مخطط «فارسي» أو «صفوي» ـــــ كما يرد في خطاب البعث العراقي الخائب).
إسرائيل في حرب تمّوز وقعت في ورطة استراتيجيّة لأنها اضطرّت إلى مواجهة طويلة امتدّت ولم تنته بنصر حاسم لها. كل الأهداف الإسرائيليّة المعلنة قبل الحرب لم تتحقّق. هذا لا يعني أن النتائج السياسيّة المتمثّلة في القرار 1701 لم تكن في مصلحة إسرائيل: بلى، كانت، ولكن تم ذلك لا بفضل الأداء العسكري الإسرائيلي بل بفضل الأداء السياسي لفريق الأمير مقرن في لبنان الذي أراد أن يحقّق في السياسة ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه بالقوّة.
إنهاك إسرائيل قد يؤدّي إلى ضعضعة الكيان على طريقة الأقليّة العنصريّة البيضاء في جنوب أفريقيا
من الصعب تخيّل سيناريوهات زوال إسرائيل منذ اليوم، لكن هناك عوامل عدة ستتجمّع عبر السنوات لتضعف الموقع الاستراتيجي لإسرائيل، بينها التنامي الديموغرافي العربي في أرض فلسطين التاريخيّة الذي سيصل في غضون عقود إلى قلب الميزان بين العرب واليهود إلى درجة تفقد معها إسرائيل القدرة على الاستعانة بـ«الأكثريّة» اليهوديّة لتسويغ قرارتها كدولة وجيش. هذا يفسّر الإصرار المتوتّر قبل إسرائيل وأميركا على ضرورة الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات أكثريّة يهوديّة بالقوّة، وكأن هذا الاعتراف سيؤدّي إلى عكس التطوّر الديموغرافي وتناقص هجرة اليهود من إسرائيل. كما أن أي اهتزاز في العلاقة الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة (التي ثبتت على نسق من التطوّر الفظيع ـــــ بمنظارنا نحن ـــــ منذ 1967) يعرّض إسرائيل لأخطار وجوديّة. إن قدرة إسرائيل على خوض حرب من دون جسر أميركي جوّي (مثلما حصل عام 1973 وحتى عام 2006) ضعيفة جداً. هذا يفسّر التركيز الصهيوني على الاحتفاظ بسطوة اللوبي في الكونغرس الأميركي. يعلم قادة إسرائيل أن تغييراً في وجهة أو في وتيرة مناصرة أميركا لإسرائيل سيلقى ترحيباً في عواصم الغرب الأوروبيّة (مع أن دول أوروبا الشرقيّة باتت تشكّل لوبياً صهيونيّاً شرساً وعنصريّاً داخل المجموعة الأوروبيّة).
إن إنهاك إسرائيل يمكن أن يؤدّي إلى ضعضعة الكيان، وقد يصل إلى مرحلة التسليم على طريقة الأقليّة العنصريّة البيضاء في جنوب أفريقيا. وهذا السيناريو مرجّح إذا لم تتلقّ إسرائيل ضربة موجعة بسلاح تقليدي أو حتى بسلاح من أسلحة الدمار الشامل. وسيترتّب على استسلام المجموعة اليهوديّة إزالة حتميّة للصهيونيّة من أرض فلسطين.
بعد انعقاد مؤتمر الحركة الصهيونيّة في «بازل» بسويسرا عام 1896، عاد ثيودور هرتزل المؤسّس إلى غرفته في الفندق وكتب (متنبئاً) بأنه يرى إمكان إنشاء دولة يهوديّة على أرض فلسطين خلال خمسين سنة. النبوءة المشؤومة تحقّقت. لكن هرتزل لم يكتب عن مصير مستقبل، أو ما يُسمّى في مصطلحات تلف المعلّبات «حياة الرف»، الكيان. أي ما هي حظوظ أو أمد حياة الرف للكيان الغاصب، مع العلم أن استشراف هرتزل ارتكز على فرضيّة قبول العرب بحقيقة إسرائيل ومشروعيّتها. التنافر بين وجود إسرائيل وقدرة العرب على النمو والازدهار والوحدة الاقتصاديّة (حتى لا نتحدّث عن تحقيق العزّة والكرامة) يبدو جليّاً أكثر من الخمسينيات عندما حلمت بعض الأنظمة العربيّة بتعايش ما مع إسرائيل. المثابرة الفلسطينيّة النضاليّة هي الأساس. غيّرت فرضيّات الصهيونيّة، وكسرت المخطط العربي الرسمي الذي لا يزال يستجدي سلاماً مع إسرائيل. (رئيس جمهورية لبنان كان يزهو في ريو دي جانيرو بأن لبنان لم يسع يوماً لحرب مع إسرائيل. فات ميشال سليمان الإهانة التي ألحقها بجيش لبنان وشعبه في هذه العبارة). ما هَمّ. سيحصل الشعب الفلسطيني عاجلاً أم آجلاً على أكثر من «دولة». نضال الشعب الفلسطيني يستحق أكثر بكثير من دولة، كما كان محمود درويش يردّد.

ملاحظة: يلقي الكاتب، بدعوة من اتحاد الشباب الديموقراطي، محاضرة في الجامعة اللبنانيّة، الفرع الأول (الحدث) في 1 حزيران، الثلاثاء، الساعة الثالثة بعد الظهر، بعنوان: «تحرير فلسطين: أين كان وأين أصبح».

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)