strong>مصطفى بسيوني*أكثر من أسبوعين قضاهما ما يقارب خمسمئة عامل من شركة طنطا للكتّان معتصمين أمام مبنى مجلس الوزراء بوسط القاهرة. يبدو ذلك أحد الاحتجاجات العمالية التي تشهدها مصر يومياً على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. ولكن هذا الاحتجاج كان معناه أبعد من مطالب العمال المتواضعة، التي تمثّلت في صرف الأجور المتأخرة وإعادة العمال المفصولين بسبب نشاطهم، وتشغيل الشركة. فشركة طنطا للكتان كانت تابعة للدولة وبيعت عام 2005 لمستثمر سعودي بقيمة 83 مليون جنيه يسدّد منها 40% مقدَّماً والباقي على ثلاث دفعات، ولا يلتزم المشتري بأي ديون أو أقساط أو التزامات على الشركة المبيعة. وبهذه الصفقة انتقلت كلّ أصول الشركة، التي تضم سبعة مصانع على مساحة 74 فداناً تصل قيمتها في أقل التقديرات إلى ثلاثة مليارات جنيه وفي أقصاها لأكثر من عشرة مليارات. لم يكن هذا الإهدار الفاضح لقيمة شركات القطاع العام هو الأسوأ، فقد شهدت عملية الخصخصة التي انطلقت في مطلع تسعينيات القرن الماضي صفقات أسوأ. شركة كوكاكولا بيعت لأحد المستثمرين بمخازنها ومصانعها وأسطول سياراتها، وأعيد بيع جزء منها في العام التالي بعشرة أضعاف قيمة الصفقة. وشركة المراجل البخارية بيعت بالكامل بقيمة لا تزيد على ربع قيمة الأرض المقامة عليها، إضافة للعشرات من الصفقات المشبوهة التي تفجرت فضائحها بعد إطلاق عملية الخصخصة.
نضال عمال طنطا للكتان لم يفضح فقط الصفقة التي أُهدِرت فيها أكبر شركة للكتان في مصر بسعر بخس، بل فضح أيضاً ما يتمتع به المستثمرون الأجانب من نفوذ وامتيازات ربما لا تقل عن تلك التي تمتعوا بها في ظل الاستعمار. فقد فوجئ العمال بإهدار حقوقهم في العلاوات السنوية والمزايا التي كانوا يحصلون عليها والتي نص عقد البيع على التزام المشتري بها. وعندما بدأ العمال في الاحتجاج على إهدار حقوقهم، ردّت الإدارة الجديدة بفصل العمال النشطاء. وفي تحدٍّ لقانونَيْ العمل والنقابات، فصلت الإدارة نقابيين يُفترض أن القانون يعطيهم حصانة ضد الفصل التعسفي. اعتصام العمال في القاهرة سبقه إضراب امتد ستة أشهر كاملة ظهر خلالها مدى عجز التنظيم النقابي الرسمي عن القيام بأي دور جدي في الدفاع عن حقوق العمال ودعمهم، وعجز الدولة الكامل عن اتخاذ أي إجراء ضد المستثمر السعودي، رغم خرقه المستمر لبنود عقد البيع أو للقانون. ورغم توقيع وزيرة القوى العاملة اتفاقاً مع المستثمر عقب إضراب الشهور الستة، إلا أنه استمر في سياسته ضد العمال رافضاً إعادة العمال المفصولين، بل فصل عمّالاً جدداً بعد الإضراب، منهم رئيس النقابة بالشركة، كما رفض دعوة رئيس الوزراء للتفاوض. اللافت أن اتحاد العمال الرسمي ووزارة القوى العاملة وجدا أزمة عمال طنطا للكتان فرصة لاتهام كل منهما الآخر بالتسبب في الأزمة وعدم القيام بدوره، ليس فقط ليتنصّل كلٌّ منهما من المسؤولية، ولكن لتصفية خلافاتهما المزمنة على المناصب. انتهى الاعتصام البطولي للعمّال بعد أكثر من أسبوعين، وبعدما فضح الموقف الرسمي باتفاق يحصل بموجبه العمال على تعويض بقيمة 40 ألف جنيه للعامل مقابل خروجهم إلى التقاعد المبكر، على أن تتحمل الحكومة الفارق بين ما سيدفعه المستثمر ويقدر بخمسة وعشرين ألف جنيه والمبلغ المتفق عليه، بالإضافة لصرف أجر شهرَيْ كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير للعمال. تجدر الإشارة هنا إلى أن العمال حرصوا على إزالة كل آثار الاعتصام من الشارع وتنظيفه وتوجيه التحية لسكانه على استضافتهم فترة الاعتصام، وكانوا طوال فترة الاعتصام يوقفون الهتافات ويلتزمون بالهدوء بعد أذان المغرب كل يوم مراعاةً لمشاعر السكان.
لا يمكن اعتبار ما حصل عليه العمال بعد أسبوعين من الاعتصام مكاسب حقيقية، وخاصة أن الخروج على المعاش المبكر كان معروضاً قبل الاعتصام بتعويض 35 ألف جنيه. وأن التقاعد المبكر في شركات أخرى يُعوّض بأضعاف المبلغ المتفق عليه. ولكن اختزال نتائج الاعتصام في هذا الاتفاق يتجاهل قيمة موقف العمال الذي تحدى الحكومة لمدة أسبوعين وأحرجها وكشف عجزها أمام المستثمر. والأهم أنه فضح الامتيازات التي يتمتع بها المستثمرون والتي تجعلهم فوق القانون. لا يمكن اعتبار الغطرسة التي تعامل بها المستثمر السعودي استثناءً، بفضل الرعاية الرسمية التي يحظى بها رجال الأعمال في مصر والتي تتم وفقاً لسياسة منظمة.
فقد شهدت مصر منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي تغييرات هامة في علاقات العمل بهدف جذب الاستثمارات العربية والأجنبية. وكان مضمون تلك التغييرات التيسير على أصحاب الأعمال. بدأت التغييرات بإصدار قانون قطاع الأعمال 203 لسنة 1991، الذي ارتبط إصداره بتوقيع اتفاقية التكيف الهيكلي مع صندوق النقد والبنك الدوليين في العام نفسه، والذي أتاح الفرصة لرجال الأعمال المصريين والعرب والأجانب تملّك مشروعات الدولة عبر عملية الخصخصة. ثم وصلت إلى حدها الأقصى بإصدار قانون العمل 12 لسنة 2003، الذي منح صلاحيات واسعة لأصحاب الأعمال في فصل العمال، وأنهى عصر استقرار العمال عبر تعميم العقود المؤقتة، مروراً بالإعفاءات الجمركية والضريبية وغيرها.
وبالرغم من تزامن تلك المرونة في شروط العمل مع تيسيرات أخرى خاصة بالضرائب والجمارك وتملك الأراضي، فإنّ أصحاب الأعمال لم يلتزموا حتى بتلك الشروط الميسرة الواردة في القوانين حتى أصبح قانون العمل من أقل القوانين تطبيقاً. فمثلاً، رغم توسّع قانون العمل في أسباب فصل العمال، أصبح الفصل يتم حتى بدون أسباب. وهناك العديد من الأمثلة المباشرة على كيفية حصول المستثمرين على كل الامتيازات والتنصل من أي التزام. فشركة المعدات التلفونية مثلاً باعتها الدولة في 1999 لمستثمر أردني بشروط ميسّرة جداً وبسعر منخفض. ولكنّ الأهمّ أنّ البيع ارتبط بمنح الشركة وضعاً احتكاريّاً في السوق المصرية تكون بموجبه المورد الوحيد لأجهزة التلفون المنزلي للشركة المصرية للاتصالات المملوكة للدولة. وبذلك ضمنت الشركة بيع كل إنتاجها مقدَّماً، وبسعر أعلى من السوق. وأصبح المستهلك مجبراً على شراء جهاز التلفون المنزلي من الشركة مع التعاقد على خط التلفون بأكثر من أربعة أضعاف ثمنه في السوق. والمهم أنه بعدما انتهت فترة الامتياز، بدأ المستثمر الأردني الضغط على العمال لإجبارهم على التقاعد المبكر عبر خفض الأجور وتأخير صرف المستحقات والتعسف في العقوبات وفصل العمال النشطين.

لم يفضح العمال الصفقة التي أُهدِرت فيها أكبر شركة للكتان في مصر وحسب، بل فضحوا أيضاً ما يتمتع به المستثمرون الأجانب من امتيازات
أمّا في شركة غزل شبين التي باعتها الدولة لمستثمر هندي عام 2006، فقد انخفض عدد العمال في الشركة من 4500 وقت البيع إلى 2200 عامل فقط، عبر الفصل التعسفي والتقاعد المبكر. وعندما ردّ العمّال على هذه السياسة التي تضمنت أيضاً خفض مستحقّاتهم المالية بالاحتجاج، تصدّت لهم الإدارة الجديدة بالفصل والنقل التعسفي.
ولكنّ هناك مثالاً أكثر وقاحة على الاستهانة بحقوق العمال المصريين، في مصر لا في الخارج فقط. فشركة لافارج الفرنسية، عملاق صناعة الإسمنت في العالم، تمتلك الشركة المصرية للإسمنت بالسويس بعدما اشترتها من شركة أوراسكوم للإنشاءات عام 2007. ورغم أن الشركة العابرة للقومية ترتبط باتفاقية مع الاتحاد الدولي لعمال البناء والأخشاب، تلتزم بموجبها بتطبيق معايير العمل الدولية على شركاتها في دول العالم، ومنها مصر بالتأكيد، إلا أن الشركة منعت عمالها من تكوين نقابة لتمثلهم، مع العلم أن الحقوق النقابية وحماية العمل النقابي من أهم البنود في الاتفاقية. وعندما حاول العمال تأليف نقابة، فوجئوا بالقبض على أحد قياداتهم الذي فصل بعدها من العمل، وأجبر آخرون على الخروج على المعاش المبكر. لا بنود عقود البيع ولا القانون المصري ولا حتى الاتفاقيات الدولية قادرة على حماية حقوق العمال المصريين في بلدهم، رغم مزاعم الحكومة الدائمة بشأن جهودها لحمايتهم في الخارج.
ولكن مع تخلّي كل الأطراف عن العمال، ظهر تصدّي العمال أنفسهم لحماية حقوقهم. فجميع المواقع العمالية المذكورة أضرب عمالها واعتصموا ونظموا الاحتجاجات في مواجهة التعسف. لقد بدأت سياسة الخصخصة في مطلع التسعينيات وأهدرت الكثير من حقوق العمال ومن ثروات المجتمع دون مقاومة تذكر. ولكن، اليوم، أكدت الحركة العمالية أن ضربات الخصخصة لن تكون دون رد.
* صحافي مصري