حسام كنفانيتنفّس محمود عبّاس الصعداء: العرب وافقوا على المفاوضات غير المباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. حصل على ما يريده، وهو الذي يخوض سباقاً بين الدبلوماسيّة وحركة الشارع. لم يكن يرغب في اتخاذ القرار بنفسه، بات قاصراً، سبق له أن وضع قرار الانتفاضة في عهدة العرب، ثم أضاف إليه المفاوضات، ليتحوّل هو إلى «منفّذ للقرار العربي».
هكذا يريح عبّاس نفسه من المسؤولية والمساءلة أمام الشارع الفلسطيني، لديه حجة جاهزة: لست أنا من اتخذ القرار، حاسبوا العرب. محنّك عبّاس في التهرّب من المسؤوليات، وإصراره على التنحّي، أو عدم الترشّح للانتخابات المقبلة، ليس إلّا جزءاً من هذا الهرب، إذ لا بد أنه يرى ما هو المستقبل «المنير» الذي ستوصل إليه سياسته التفاوضية في الأراضي الفلسطينية.
رغم ذلك، فإنه مصرّ على المضي في خوض هذه السياسة تحت شعار «إعطاء الفرصة للأميركيين». هذا هو الظاهر، لكن الباطن مختلف. المفاوضات بالنسبة إلى أبو مازن اليوم هي محاولة لاحتواء الغضبة الفلسطينية، التي بدأت تظهر في شارع الضفة الغربية خصوصاً. رغبة من الواضح أن الكثير من العرب يجارونه فيها، وعلى أساسها كان قرار الموافقة على المفاوضات غير المباشرة و«لأربعة أشهر»، لا شك قابلة للتجديد بناءً على «التقدّم» الذي ستروّج له السلطة الفلسطينية.
الأربعة أشهر ليست إلّا مهلة صوريّة في القرار العربي، حتى بدون تقدّم، لأن المبادرة الأميركية تتحدث عن انتقال سريع إلى المفاوضات المباشرة، والإسرائيليون يُعدّون لهذا الانتقال في غضون شهر لا أكثر، وبالتالي فالمهلة المعطاة للمفاوضات غير المباشرة لا تنطبق على المباشرة، التي ستكون بلا سقف زمني، باستثناء الوعد الأميركي بإنجازها خلال عامين.
العرب، ومن أمامهم عبّاس، لم يرغبوا في الظهور كالمنساقين وراء الرغبات الأميركية. أرادوا إضفاء لمساتهم «السياديّة» على مخطّط واشنطن، فابتكروا «الأربعة أشهر» لتكون «إضافة نوعيّة» لا تصريف لها في السياسة.
إذاً المفاوضات عائدة، والقرار سيُتخّذ من «القيادة الفلسطينية» السبت خلال اجتماع اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير. «القيادة» متلهّفة لهذه العودة، ولا سيما أنها ترى حال الغليان في الشارع، التي باتت في طريقها إلى الخروج عن السيطرة.
حال تعاكس رغبات مسؤولي السلطة الفلسطينية، وفي مقدمتهم عبّاس ورئيس حكومته سلام فيّاض، الذين يرفضون العودة إلى «العنف» على اعتبار أنه «رغبة فلسطينية عامة». هكذا قال فيّاض في تعليقه على هبّة الخليل ضد مخطط تهويد الحرم الإبراهيمي. انصبّ همّه على رسم سقف لحركة الشارع، أكثر منه على التنديد بالإجراءات الإسرائيلية.
حتى محمد دحلان أدلى بدلوه، متّهماً نتنياهو بـ «استدراج» الفلسطينيين إلى انتفاضة ثالثة. عبقرية دحلانيّة خارقة، فبرأي «أبو فادي» أن الإسرائيليين هم من يريد الانتفاضة، بينما الشارع الفلسطيني مستكين إلى «سلميّته وحياته اليوميّة».
عبّاس وحده بقي صامتاً إزاء «الانتفاضة المصغّرة». اختار العمل بدل الكلام، تنقّل بين الدول ليصل إلى مبتغاه بالقرار العربي الأخير والعودة إلى التفاوض، لعلّه يكون الحقنة المسكّنة للوضع الداخلي، وتأجيل الانفجار.
وأبو مازن، وباقي أفراد طاقمه، يدركون أن الحراك الأخير في الخليل والقدس المحتلة، لم يكن فقط ردّ فعل مرحليّاً على الإجراءات الإسرائيلية. بل إن الأخيرة كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير. الإجراءات هي الدافع الظاهري، لكن باطن الحراك الشعبي مرتبط بتراكم الإخفاقات خلال السنوات الماضية، وبالتحديد منذ اختار عبّاس شعار «سلاح الشرعية والمفاوضات» لمواجهة الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية. سلاح كان في غالبية الوقت موجّهاً إلى الفلسطينيين أنفسهم عبر حملات التنسيق الأمني، برعاية الجنرال كيث دايتون، بذريعة «إنهاء فوضى السلاح»، وكأن الأراضي الفلسطينية هي جزء من نعيم أوروبي، اجتاحته فجأةً موجة من «الخارجين على القانون».
الحراك الأخير هو جزء من اليأس الفلسطيني العام من السياسة القائمة لعبّاس وطاقمه، سواء بإدارة ملف التسوية أو بفضائح الفساد الداخلي. يأس بدأ يتسرّب إلى داخل مكوّنات السلطة، وخصوصاً في حركة «فتح»، التي ترتفع الأصوات داخلها مطالبةً بخيارات أخرى. حتى إن الأمور تجاوزت الأصوات، لتبدأ مشاريع تطبيق، ولا سيما بعد العملية ضد القوات الإسرائيلية التي نفذتها «كتائب شهداء الأقصى ـــــ مجموعة عماد مغنيّة» أمس قرب رام الله.
عمليّة تمثّل مؤشراً مهماً على «الخروج عن الطاعة» القائم في حركة «فتح»، الذي بدأ يتبلور منذ كانون الأول الماضي، حين اغتال الاحتلال القادة الثلاثة في «كتائب الأقصى» في نابلس، وما تبعه من حوادث «فرديّة» قام ببعضها أفراد من الشرطة الفلسطينية.
وجاءت هبّة الخليل والقدس المحتلة أخيراً لتعطي مثالاً على ما هو آت إلى الضفة الغربية. مثال لاقتراب الشارع الفلسطيني من الانفجار. الإسرائيليون يدركون ذلك، وقياداتهم العسكرية تحذّر من خروج الوضع عن السيطرة وتوسّع المواجهات إلى باقي المدن الفلسطينية.
التحذير يصل إلى مسامع أبو مازن فيفعل عكسه. التفاوض بداية للاحتواء المؤقت، وتكثيف التنسيق الأمني قد يكون تالياً لمنع تضخّم كرة الثلج. إجراءات مرحليّة قد تؤجّل الانفجار من دون أن تمنعه.
الانفجار آتٍ «شاء من شاء وأبى من أبى».