محمد بنعزيز*كلّ شيء جرى في العاصمة كما خُطّط له في شباط/ فبراير 2009. تأسّس حزب السلطة قبل أن يرتدّ إليه طرفه، فاز في كل الانتخابات، حصل على رئاسة مجلس المستشارين، حصل على الأغلبية في البرلمان فخرج للمعارضة، ومن هناك وعد بمشهد سياسي جديد وهو يرتّب البيت الداخلي للجيران الحزبيّين. من أول شروط هذا المشهد مهاجمة الإسلاميين، وقد رد عبد العالي حامي الدين ـــــ القيادي في حزب العدالة والتنمية ـــــ على ذلك، ووصف أعداء حزبه بأنهم «حاشية السلطان».
الشرط الثاني هو التخلص من ديناصورات الأحزاب: نهض عضو من الاتحاد الاشتراكي ضد زعيم حزبه ليطالبه بالانسحاب من الحكومة، أقيل الزعيم وبعده صار ذاك العضو وزيراً... ثم جاء دور الأمين العام للتجمع الوطني للأحرار، كانت الغارة سريعة وكاسحة، فجأةً حصل إجماع في قيادة الحزب على أن الأمين العام غير ملائم، سميت الغارة «حركة تصحيحية»، عُقد اجتماع قيادي وحصل المرشح للخلافة ـــــ وزير المال الحالي ـــــ على 99% من الأصوات من صناديق شفافة، فأعلن أنه سيتحالف مع حزب السلطة، وأنه لا يوجد أيّ احتمال ليتحالف مع الإسلاميين. أمّا الأمين العام المخلوع، وهو في نفس الوقت رئيس مجلس النواب، فينتظر نهاية منتصف الدورة التشريعية لينزل من الكرسي... وهذا التغيير مزية مغربية لا عربية.
الحزب الموالي في التمهيد للمشهد السياسي الموعود معنا بالديموقراطية هو حزب الحركة الشعبية، هبت ريح خفيفة من الضغوط، فأعلن أمينه العام، الذي يشغل حقيبة وزير فارغة، أنه «لن يكون حجر عثرة في تغيير القيادة»، ونعمَ الذكاء، لأن أعجز الرأي هو الذي يكلف صاحبه القتال كما قال كليلة لدمنة في باب «الأسد والثور». واضح أن تغيير القيادات الحزبية في المغرب لا يكون إلا إجبارياً، سواء بالموت أو بالعزل، ولما كان الله يمهل هذه القيادات حتى تملّها الكراسي فإن العزل هو الحل... لكنه عزل غريب لأنه ليس صادراً عن جماهير الحزب بل عن تدخّل الحزب ـــــ الجار، إنه تدخّل حزب صديق الملك الذي يقود التغيير من فوق... المشكل أنه يجري «تغيير اللاعبين لا تغيير قواعد اللعبة» حسب أخبار اليوم 20ـــــ02ـــــ2010.
من باب تعميم هذا التغيير انتقلت الروليت من العاصمة إلى الأقاليم، من الرباط إلى فاس، التي يسيّرها عمدة قوي يدير التحالفات المحلية بمهارة، هنا يواجه حزب الدولة ـــــ الذي يدير السلطة السياسية حالياً ـــــ يواجه مشاكل... فشوارع العاصمة مستقيمة ومضاءة... بينما شوارع فاس متعرجة وضيقة لا تسير فيها إلّا الحمير المحمّلة بالسلع...
لا يمكن استبدال اللاعبين المحليين ـــــ العمداء ـــــ بغارة هاتفية في مدن مثل فاس والعيون وآكادير، فهم أبناء العشيرة ويستطيعون التصرف بنوع من الاستقلالية عن السلطة المركزية... وبفضل ذلك النفوذ فإن الأحزاب هي التي تجري وراءهم لترشيحهم، وهم يستبدلونها كما يستبدلون جواربهم... غير أن اللعب المحلي يكون ضعيفاً في العاصمة، ويمكن تطويعه بسهولة، لكنه في منطقته، هو الذي يضع قواعد اللعبة ويديرها، وقد واجه حزب صديق الملك أول تمرين في أيلول/ سبتمبر 2008 بمراكش، حيث رشح الحزب الوليد معتقلاً يسارياً سابقاً ضد نائب نصف أمّي ألغي انتخابه لكنه فاز ثانيةً فجرى التحقيق في خروق عمرانية ارتكبها.
الغريب أنه يتوقع أن يظهر كل هذا للملاحظين كأنه من عند الله، وأن صديق الملك لا صلة له به، ونحن من باب الحذر نسلّم بذلك، ونشهد أن كل ما سبق قضاء وقدر، لنقل إنه طبيعي في هذه الأيام أنّ تُحمَّل الطبيعة أكثر من طاقتها، فقد حمّلها وزير الاتصال مسؤولية قتل 42 مصلياً يوم الجمعة 19 ـــــ 02 ـــــ 2010 لأنّ المطر هو الذي أسقط الصومعة المائلة عليهم، وهو الذي قتل الكثيرين في الفيضانات... يبدو أن المطر وحده القادر على ممارسة المعارضة عبر كشف فساد البنى التحتية في المدن العربية.
لقد شاركتُ في الحملات الانتخابية المغربية منذ بدأ الحديث عن تعديل الدستور تمهيداً للانتقال الديموقراطي الأبدي عام 1996، كانت مشاركتي جهوية، عملت منشّطاً لحملة انتخابية ومراقب صندوق، ومراقب فرز بعد إغلاق المكاتب، كان الفرز شفافاً لأن النتيجة تحسم خارج مكتب التصويت، بالمال والوعود، وقد حضرت مفاوضات غريبة مثل الاتفاق مع شخص من حيّ أو قبيلة ما على ثمن يناسب ما يحصل عليه المرشح من أصوات بعد الفرز. فإن كان هناك خمسون صوتاً فله ثمن، وإن كان مئة فله ثمن... وهكذا جرى الالتفاف على نظام التصويت باللائحة الذي أقرّ لمنع شراء الأصوات في التصويت الأحادي الفردي.
ما معنى ذلك؟ معناه أن الأعيان لا يستمدّون قوتهم من الحزب وبرنامجه وأفكاره، بل من نفوذهم العضوي في مناطقهم، من علاقاتهم الزبونية بناخبيهم، نفوذ وعلاقة تورث... وقد سهل تراكم الثروة هذه العملية، وهذا ما يفقد فوزهم أية دلالة سياسية... ولا تتضح هذه الحقيقة إلّا حين يتجه أولئك الفائزون محلياً، في الانتخابات التشريعية المفترض أنها وطنية، حين يتجهون إلى العاصمة ليشرّعوا... وقد عرفنا بفضل نقل التلفزة لمناقشات مجلس النواب ضحالة المستوى الثقافي وضبابية التوجه السياسي لأولئك النواب... حينها يصيرون تحت سلطة البيروقراطيين في العاصمة حيث الشوارع مستقيمة...
لكن عندما يرجع هؤلاء إلى شعاب الأقاليم التي قدموا منها، فإنهم يسترجعون ثقتهم بأنفسهم في مسالك ألفوها... وحينها يجد حزب السلطة نفسه أمام صعوبات لم يألفها في العاصمة، وهذا ما جرى الآن مع عمدة فاس، الذي اتهمه ممثل حزب السلطة بأنّ له ميليشيات، وشبّهه بـ«بوحمارة». ما هو الرد؟ هنا وجد عمدة فاس نفسه في شعابه وهو أدرى بها، وقد أدار اجتماعاً للمجلس البلدي كان عضو من حزب السلطة يشوّش فيه، وجرى تصوير خمس دقائق فيديو وُضعت على موقع يوتيوب... فانقلب السحر على الساحر، ظهر نوع المناضلين الذين التحقوا بحزب السلطة فضخّموه وصاروا أوراماً تثقل على ركبتيه... ومن باب المزايدة أعلن العمدة أنه سينظّف فاس من الخمور والملاهي وأوكار الفساد... وبهذا تحوّل الصراع إلى مسألة دينية فكثر مؤيّدو العمدة، وقد اغتنم الإسلاميون الفرصة للتعبير عن إعجابهم بالقرار...
في هذه الحالة يكون عمدة فاس قد كيّف الجدل لمصلحته، وصار حزب السلطة كأنه «يجاهر بالدفاع عن الرذيلة»، وفي معركة كهذه، لا تبدو الأرباح واضحة. للإشارة، فالعمدة عضو في حزب الاستقلال الذي ينتمي إليه الوزير الأول. العجب: الحزب يعارض حاشية السلطان في الأقاليم ويخشاها في العاصمة.

يجد حزب السلطة نفسه أمام صعوبات لم يألفها في العاصمة، وهذا ما جرى الآن مع عمدة فاس
تمثّل تجربة فاس مختبراً للمستقبل في محاولة تدبير العلاقة مع الأقاليم من العاصمة، وقد نصّب الملك في بداية يناير 2010 «اللجنة الاستشارية للجهوية»، وأكد أن «الجهوية الموسّعة المنشودة، ليست مجرد إجراء تقني أو إداري، بل هي توجه حاسم لتطوير هياكل الدولة وتحديثها، والنهوض بالتنمية المندمجة». في ظل اشتغال اللجنة، وفي ظل محاولة تطويع أعيان الإقليم من العاصمة، يطرح توصيف عمدة فاس بأنه «الروكي بوحمارة» أبعاداً قوية للمشكل. الروكي بوحمارة هو قائد محلي تمرّد على السلطان المغربي عام 1902 شرق فاس، عمدة فاس الحالي يعلن ولاءه التام للسلطان، ويجهر بتمرده على حاشية السلطان التي تعدّ نفسها مقدسة حسب قوله. وهو بسلوكه يؤكّد أن تغيير اللاعبين في العاصمة أسهل من تغييرهم في الأقاليم، فقد أقال الملك وزيراً في الرباط، فعاد إلى العيون ليعمل في المجلس البلدي بكامل نفوذه، ويقول أنصاره إن دعمهم له تمرّد على الحاشية.
تبيّن هذه الحالات المتواترة مشاكل الجهوية التي على اللجنة الاستشارية معالجتها، معالجة تحرص على توضيح قواعد اللعبة وتلزم اللاعبين بها، إضافةً إلى أنه في الجهوية الحقيقية، يجب أن يأتي التغيير من تحت، وهذا غير وارد في مغرب اليوم، لأن السلطة شديدة التمركز، ولأن قوى التغيير ضعيفة مشتّتة ونخب العاصمة تتعرض للاستقطاب، وأعيان الأقاليم في موقع قوي لتكييف الجهوية لمصلحتهم، والشعبوية واحدة من أحصنتهم الرابحة.
* صحافي مغربي