حسان الزينما العلاقة بين رئيس الجمهورية الحالي، ميشال سليمان، الذي وصل إلى قصر بعبدا منذ نحو سنتين ليس إلّا، والدَين العام الذي يتراكم على البلد منذ نحو عقدين؟
لا شخصَ في لبنان «يجسّد» معنى كلمة توافق أكثر من رئيس الجمهورية. هو ارتضى لنفسه هذا، وقَبِلَ ما أودعته لديه القوى السياسية المختلفة، ويقبَل أن «تزكزكه» القوى السياسيّة به، وتبتزّه به، وتذكّره به، وبأنها صاحبته ويمكنها، مجتمعةً ومتفرّقةً، نزعه منه، ساعة تشاء.
تفعل القوى السياسية ذلك بساديّة مفرطة وخفية، ولا مانع لديها من أن يكون ذلك علناً، أحياناً. في المقابل، يحاول رئيس الجمهورية الإفادة من هذا الوضع، لمصلحته.
في الأمر خدعة، هي من ألعاب الخفّة التي يمارسها الطاقم السياسي الحاكم. فالطاقم السياسي السفسطائي، سلوكيّاً لا فلسفيّاً، يقدّم التوافق السياسي دستوراً، أو بديلاً من الدستور والديموقراطية، بل بديلاً من النظام والدولة والوحدة الوطنية... بديلاً من التنوّع الاجتماعي والتعدّد السياسي. تماماً كما يقدّم نفسه بديلاً من المواطنين. فالتوافق السياسي بالنسبة إلى الطاقم السياسي أعلى مراحل الطائفية، هو هدنة وغطاءٌ لتوفير فرص متجددة للمساومات والتجاذبات في ما بينه. وكما يعرف الطاقم السياسي أنه احتاج، بهدف توفير خشبة المسرح لـ«التوافق السياسي»، إلى الاستعانة برئيس من خارجه، كذلك يعرف رئيس الجمهورية أنه الصورة والممثل الضروريان للطاقم السياسي ولرئاسة الجمهوريّة. فالطاقم السياسي، مع اختياره قائد الجيش لرئاسة الجمهورية، حلَّ مشكلة عدم توافقه، أكثر مما هو اتفق. ونتيجة لذلك جرى التمديد لتهميش رئاسة الجمهورية في «الفريزر» الوطني. فإذا كان التوافق السياسي يعني بالنسبة إلى القوى السياسيّة التماشي مع الرياح الإقليمية أكثر مما هو نزع لفتيل الحرب وتطوير للنظام الديموقراطي، فإنه بالنسبة إلى رئيس الجمهورية فرصة لدخول الطاقم السياسي.
هذه هي المعادلة. ويبدو أن رئيس الجمهورية أدركها باكراً، حتى منذ ما قبل «انتخابه» المسرحي. وبدأ سريعاً يتصرّف لصرف ذلك حصّة له. وقد سعى ويسعى ليكون شريكاً للطاقم السياسي، أكثر مما يسعى ليكون رأس الدولة وحافظ التوازن وما إلى ذلك. لقد دخل اللعبة وتطبّع مع القواعد التي صاغها الطاقم السياسي. مسار يشبه مسار رئيس الحكومات الأسبق رفيق الحريري، مع فارق أن الرئيس الشهيد تحوّل حالة سياسية وشعبية وزعيماً لطائفته. الامتياز الوحيد لرئيس الجمهورية الحالي أنه يتصرف كأنه يعرف أن كون الرئيس من خارج الطاقم السياسي، من المؤسسة العسكرية تحديداً، فهو كرمز للإصلاح وداعيته وقوّة فرضه وتحقيقه، كذبة قد سقطت وما عادت تنطلي على أحد. مع أنه حاول تكرار خطاب قَسم سلفه. فخطابه الانتخابي، منذ لحظة إلقائه في مجلس النواب، لم يؤخذ كقسم. يدرك هو ذلك، وكذلك يفعل الجميع. الجميع يتصرف باعتبار أن هذا الرئيس بدل من مفقود، وأنه يمثّل لحظة قبول أطراف النزاع حلاً مؤقتاً، وأنّ طاولة الحوار بشأن استراتيجيّة تقاسم السلطة وتوابعها، وأن حصته هي عبارة عمّا لم يتفق عليه، هي حصة تضبط التوافق على الحصص الأخرى، وهي ما لا يريد سعد الحريري وحلفاؤه إعطاءه لميشال عون، وما لا يريد حزب الله وحلفاؤه إعطاءه لسمير جعجع وأمين الجميل والبطريرك صفير. لقد دخل السوق، ويبيع ويشتري، ومع كل استحقاق انتخابي وحصصي يجتهد لاقتطاع ما أمكنه، تماماً مثل القوى السياسية، بالرغم من أنه ليس قوّة سياسية ولا حيثية شعبية. وبالتالي، فإنّ من يختارهم لحصته، أيّاً كانوا كأشخاص، ليسوا، عندما يغدون ضمن الحصة، عناوين إصلاحية، ما دام هو ليس كذلك. هو صورة جامدة لتوافق الطاقم السياسي تخفي كواليس يحاول فيها الرئيس أن يستثمر ما ربحه في اليانصيب الوطني في السوق السياسيّة.
أيُّ موقف إصلاحي اتخذه وسار فيه، في قانون الانتخابات، في الإدارة... أين؟
مرّ نحو سنتين منذ وصوله إلى قصر بعبدا، قدّم ميشال سليمان في هذه المدة نموذجاً لإضاعة وقت رئيس الجمهورية، في السعي الحثيث ليكون جزءاً من الطاقم السياسي، من دون أن يقدر إلّا على أخذ الحصص كمن يحمل كأس الفوز بعد تعادل اللاعبين، أو كمن ينال ميدالية برونزية ويهلّل بها.
ليس الطائف وحده من فعل هذا برئاسة الجمهورية، معه اتفاق الدوحة، والطاقم السياسي ورئيس الجمهورية، الذي أخذ من الدوحة والطاقم السياسي التقاسم الفوقي، لنفسه لا لمن يُفترض أنه يمثّل في هرم السلطة السياسيّة. ويتحدّثون عن المناصفة أو المثالثة بينما، في حقيقة الأمر، رئيس الجمهورية، الساهر على تطبيق الدستور وحماية الوطن والمواطنين، يشارك في توزيع الحصص، وفق موازين القوى والمصالح. ويعتقد أن هذه اللعبة الفوقية تجعله زعيماً، أو بين الزعماء.
الجواب: رئيس الجمهورية الحالي مثل فوائد الدين العام بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، التي باتت، بدورها، ديناً عاماً. يرتهن له المواطنون ويخدمونه، بينما الطاقم السياسي «يغذّيه» ويجتهد ليجعلنا ننساه، كمن يتمتم ليجعل فريسته، وهو ينحرها حلالاً له.