فادي عبود *نشرت صحيفة الهيرالد تريبيون في 14 كانون الثاني الفائت، مقالاً للصحافي دايفيد بروكس، بعنوان: «نواة تل أبيب» (Tel aviv Cluster) يقول فيه بروكس إنّ «تل أبيب أصبحت واحدة من أكثر مناطق العالم تقدماً في ما يتعلّق بمبادرات الأعمال. تتمتّع إسرائيل بأعلى معدّل إطلاق مبادرات أعمال واختراعات التكنولوجيا في العالم».
ويؤكّد بروكس أنّ «النجاح التكنولوجي لإسرائيل هو ثمرة الحلم الصهيوني. فالبلاد لم تُنشأ لكي يجلس اليهود الشاردون بين الفلسطينيّين في الخليل، بل أنشئت ليكون لليهود مكان آمن يجتمعون فيه ويبتكرون الأشياء للعالم». إن هذا التصريح جعلني أشعر بأنّ بروكس يعتقد جدياً بأنّ اليهود هم شعب الله المختار.
ويدّعي بروكس أنّ الكثير من الدول الغنية بالنفط حاولت بناء مراكز متقدمة للأبحاث والتطوير، لكنها لم تنجح. فالأماكن مثل تل أبيب بنيت بسبب القوى الثقافية لا بسبب المال، كما يشير صراحة إلى أن البلدان المحيطة لا تملك عادة التبادل الثقافي الحر أو الإبداع في مجال التكنولوجيا. ويورد بروكس أمثلة على ذلك بين عامي 1980 و2000، حين سجّل المصريّون 77 براءة اختراع في الولايات المتّحدة، فيما سجّل السعوديّون 171 براءة اختراع، أمّا الإسرائيليّون فقد سجّلوا 7652 براءة اختراع.
من جهة أخرى، يكتب دان سينور وسول سينغر، عن «قصّة المعجزة الاقتصاديّة الإسرائيليّة: تتمتّع إسرائيل حالياً بنواة ابتكار كلاسيكيّة، حيث يعمل المبدعون في مجال التكنولوجيا بطريقة مكثفة».
وقد دفعني ذلك لكي أقارن بين أداءَي لبنان وإسرائيل، وتحديداً في قطاع المعرفة والابتكار. فأين نقف اليوم من كل ذلك؟ ما هي إنجازاتنا الفعلية مقارنة بإنجازاتهم؟ يبدو الواقع، للأسف، مخيّباً للآمال. لكنّي أعتقد أنّ هذا هو المصير الذي نستحقّه عندما نقرّر أن نتجاهل أنّنا نعيش في القرن الـ21: عصر المعرفة والتكنولوجيا والابتكار.
فقد تدهور وضع لبنان إقليمياً وعلى السلّم العالمي وفقاً لمؤشّر اقتصاد المعرفة الذي يعدّه البنك الدولي. فقد حلّ لبنان في المرتبة 66 بين 140 بلداً، متراجعاًَ 16 مرتبة مقارنة بالدراسة السابقة التي أجريت عام 1995. العدد الإجمالي لبراءات الاختراع الأميركيّة الممنوحة لإسرائيل حتّى عام 2008، يبلغ 16805 براءات اختراع، مُنحت 1166 براءة في عام 2008 وحده. وفي المقابل، يبلغ عدد براءات الاختراع الممنوحة للبنان 77 براءة، اثنتان منها فقط مُنحت في عام 2008.
على صعيد آخر، تحلّ إسرائيل في المرتبة الـ26 عامياً بين 132 بلداً، وفقاً لتقرير التنافسيّة العالميّة 2009 – 2010، الذي يعدّه المنتدى الاقتصادي العالمي، فيما لا يرد اسم لبنان في التقرير بسبب نقص في البيانات.
من الواضح أنّ الابتكار في لبنان متأخّر، ونحن لسنا مستعدّين بعد لتبنّي استراتيجيّات جديدة لتقوية الروح الابتكاريّة في جميع أوجه حياتنا اليوميّة: الصناعة، السياحة، التعليم، الفن... ومن جهة أخرى، لم تتطور الإنتاجية في لبنان، ما يزيد الجرح عمقاً...
ولادة نوع جديد من الدولة المعولمة: الدولة ــ العلامة التجاريّة
الصراع العسكري مع إسرائيل، رغم أهميّته، لا يعكس جميع أوجه حربنا معها. يجب ألا يُحصر صراعنا مع إسرائيل بالاستراتيجيّات العسكريّة فقط. إذا كنا نريد بناء وطن «قويّ»، نحتاج للتطرّق إلى جميع المسائل، وتحديداً المعرفة. فالاقتصاد العالمي يتحوّل على نحو متزايد إلى اقتصاد غير ملموس، يوصف بأنّه «اقتصاد مبني على المعرفة». وتفهم إسرائيل قواعد اللعبة، وبالتالي يستثمر الإسرائيليّون بقوّة في المعرفة. يمكن المقاومة ضدّ إسرائيل أن تكون بأشكال عديدة: تسجيل براءة اختراع هو عمل مقاوم، تحويل لبنان إلى مركز صناعي وسياحي وتجاري ومالي، هو فعل مقاومة.
عندما أطلقت جمعيّة الصناعيّين اللبنانيّين «حرب الحمّص» كما سمّيت، وسجّلت رقماً قياسياً في كتاب غينيس لأكبر صحن حمّص، كانت توجه رسالة مهمّة: يمكن كلّ فرد أن يقوم بفعل مقاوم في ميدان اختصاصه، فعوضاً عن اتهام الآخرين باحتكار المقاومة دعونا نحاول تسجيل إنجازات أكثر على المستوى العالمي.
إن القدرة على الابتكار هي التي ستحدد تنافسية الدول في المستقبل، وبالتالي يحتاج لبنان إلى أفكار جديدة ليتمكن من المنافسة على الصعيد العالمي. والعلاقة بين الابتكار والتنمية الاقتصادية لا يمكن إنكارها. فالبلدان التي تعتمد بنسب كبيرة على الابتكار تملك القدرة على خلق قيمة اقتصادية من خلال تطبيق المعرفة. والبلدان التي تملك مستويات متقدمة من الابتكار قادرة على تصدير تكنولوجيا متطورة. ولا يمكن التجاهل بأنّ المعرفة هي الأصل الأكثر أهميّة للاقتصاد الحديث، والجامعات والأنظمة التعليميّة هي المنتج الأساسي لعمليات الابتكار وتطوير سبل المعرفة. ولذا نحتاج إلى نظام تعليمي جديد لإنتاج تعليم بمستوى عالمي يشجّع على الابتكار والإبداع.
وبالعودة إلى مقال بروكس، يتبجّح الأخير بإنجازات اليهود، فيقول إنّ «اليهود كمجموعة، مشهورون بإنجازاتهم. فهم يشكّلون 0.2% من سكّان العالم ولكن 54% من أبطال الشطرنج العالميّين و27% من الفائزين بجائزة نوبل للفيزياء و31% من الفائزين بجائزة نوبل للطب». حملة ترويجيّة حيث يلجأ بروكس إلى تعداد الإنجازات اليهودية وتصويرها على أنها إسرائيلية، وهذه وسيلة دعائية تعتمدها إسرائيل لترويج صورة مغايرة عن الواقع. وقد نجحت السياسة الدعائية في تصوير إسرائيل كأنها ديموقراطية متطورة وأرض للإبداع والثقافة والسياحة.
على لبنان أن يسير على الطريق نفسه، ويفكّر جدياً بإعادة رسم صورته في الخارج. فقد أصبحت صورة البلدان قضيّة تعالجها الدول بالكثير من الجدية. وبعض المحلّلين يتحدّثون منذ الآن عن ولادة نوع جديد من الدولة المعولمة: الدولة – العلامة التجاريّة.
وتبدو الدول أكثر دراية بأهميّة صورتها وسمعتها، اللتين تمثّلان علامتها التجاريّة. إذاً دعونا نعد صياغة العلامة التجاريّة للبنان. عمليّة تمثّل أحد الأهداف الأكثر أهميّة، التي نحاول تحقيقها في وزارة السياحة.
ربّما حان الوقت لتأسيس «مجلس ترويج للبنان» لكي يبدأ بالترويج لروح لبنان وإنجازاته وثقافته وتاريخه. حان الوقت للبدء بالترويج لصورة لبنان الحديث الجاهز لمواجهة القرن الـ21. صورة تعكس حقيقة إرث لبنان وتقاليده ومقوماته الغنية التي لم نحسن بعد استغلالها.
هل يمكنني التجرّؤ بأن أحلم بلبنان مركزاً للأبحاث والتطوير والابتكار والتكنولوجيا الحديثة، وجهة أساسيّة للسياحة، أرضاً للفرص لأبنائها المتعلّمين، بلداً للابتكار والإبداع؟
فجأة، تراودني صورة محبطة: السياسيّون اللبنانيّون يتقاتلون على التعيينات الإدارية... كذلك تعقّد الانشقاقات السياسيّة الانتقال نحو إصلاح القانون الانتخابي والبلدي.
يبدو أنّ اقتصاد المعرفة والتعليم وصورة لبنان في الخارج والإنجازات والبحوث والتطوير وغيرها... جميعها سوف تتأجل قليلاً، لكننا لن نيأس.
* وزير السياحة