عبد العلي حامي الدين *تثير بعض القضايا الاجتماعية والفنية والثقافية الكثير من الجدل والنقاش بين اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة، هذا الجدل يدور حول بعض التعبيرات «الفنية» التي يرى فيها البعض تجاوزاً لقيم الإسلام الداعية إلى الحياء والحشمة، أو حول حدود الحريات الفردية ودور الدولة في حماية «قيم المجتمع»، وموقع القانون في هذا الصراع، هل يتدخل لتأطير سلوكيات الأفراد أم لا؟ وإذا تدخل ما هي حدود تدخله؟ هل يصادر رغبات الأفراد ونزعاتهم ويفرض أنماطاً ثقافية واجتماعية معينة، من المفروض أن حولها نوعاً من الإجماع؟ أم يتدخل لرسم الحدود الضرورية بين رغبات بعض الأفراد وميولهم وبين القيم المثالية والنموذجية التي تحظى باحترام الجماعة وتقديرها؟
شخصياً، لا أميل إلى جواب حاسم عن هذه الإشكالية، لكني أتصور أن بعض الأفكار والمواقف التي تصدر من حين لآخر عن بعض رموز الحركة الإسلامية وردود أفعالهم تجاه بعض القضايا ذات الطبيعة الأخلاقية أو الهوياتية تحتاج إلى بعض النقاش.
فقد دأبت بعض الاجتهادات الفكرية داخل الحركة الإسلامية على إبراز تحفظاتها على مفهوم الحرية أكثر من مطالبتها بالحرية وإبدائها نوعاً من النضالية في الإلحاح عليه كقيمة حضارية مثلت مبدأ أساسياً من مبادئ النظام السياسي والاجتماعي في الإسلام، وهو ما رسم صورة ملتبسة حول موقف بعض الإسلاميين من الحرية، بل اجتهد البعض ليصور بأن الإسلام يتعارض مع الحرية ويصادر حق الناس في تبني مجموعة من الاختيارات المذهبية أو الفكرية أو السياسية أو العقدية...
من الناحية السياسية، هناك من يعلق آمالاً عريضة على سلطة القانون لمنع بعض الظواهر السلبية التي أفرزها الواقع الاجتماعي ويعتقد بأن سلطة القانون كفيلة بممارسة نوع من «الإكراه المشروع» على المستوى العقدي والفكري على الناس... (وإن كنا لا نجادل في أهمية الوحدة المذهبية القائمة عن طريق الرضى الطوعي للناس بدون قسر ولا إكراه)..
هناك حاجة إلى مناقشة بعض المقولات الفكرية، وكيف تعاطى معها الفكر الإسلامي المعاصر، ومنها مقولة الحرية.
أولاً، لا بد من ضرورة التمييز بين ثلاثة مستويات:
المستوى الأول، الأصول النظرية لبعض المبادئ الواردة في القرآن والسنّة مع ما تحتمل من تفسيرات وتأويلات مختلفة في بعض الأحيان، لكنها هي المرجع الذي يحتكم إليه في الاستدلال...
المستوى الثاني، اجتهادات الفقهاء وقراءاتهم المختلفة للنص واختلاف السياقات التاريخية التي أثرت في كتاباتهم وتنظيراتهم، بحيث جاءت في الغالب عبارة عن اجتهادات وإجابات مبنية على ظروفها وزمانها، أو هي صيغ تطبيقية تاريخية لبعض النصوص الشرعية، تبعاً لما فيه مصلحة أو مفسدة، وتبعاً لما عليه العرف والسلوك الجاري به العمل بين مختلف الدول والشعوب والجماعات.
أما المستوى الثالث، فهو التجربة التاريخية للمسلمين أو التنزيل العملي لبعض المبادئ السياسية في الإسلام، والذي لم يوفق دائماً في تمثل روح هذه المبادئ، من قبيل الشورى والعدل والحرية والمساواة والعدل والتعاون مع الغير على الخير واحترام الأديان والثقافات والحضارات الأخرى...
في رأيي المتواضع أن فهمنا للحرية لا يتّسع لقبول مجموعة من الأنماط الفكرية والمذهبية والاجتماعية التي أضحت من إفرازات العصر وتحولاته، وهو ما يقتضي الرجوع إلى الأصول والنظر فيها، وعدم الجمود على بعض المقولات والآراء الفقهية التاريخية التي جاءت لتعبر عن بيئات اجتماعية معينة، أو الاستسلام لقناعاتنا العقدية التي تدفعنا إلى الإفراط في التعبير عن الغيرة على الدين إلى درجة غير مقبولة اجتماعياً، ودينياً أيضاً...
إذا رجعنا إلى الأصل القرآني نلاحظ أن التصور الإسلامي يذهب في اعتباره للحرية والعناية بها إلى مدى لم تصل إليه بعض المذاهب السياسية أو النظم الدستورية المعاصرة.
حرية الاعتقاد في القرآن تمنع أي إنسان من مضايقة أحد بسبب اعتناقه لعقيدة معيّنة
ويرجع السبب في ذلك إلى كون الإسلام يعتبر بأن فطرة الله التي فطر الناس عليها تتضمن «حقهم في الاختيار». في اختيار الرأي، واختيار الفعل أو الموقف الذي يترتب على هذا الرأي. وليس أوضح في الدلالة على هذا المعنى ما يقرره القرآن الكريم في قصة آدم وزوجه. فقد بيّن القرآن كيف نهاهما الله عن الأكل من إحدى شجرات الجنة. ثم كيف خالفا هذا النهي. «فأكلا منها» «وعصى آدم ربه فغوى». وترتّب على هذه المعصية خروجهما من الجنة مع قول الله تعالى لهما «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا».
فتعبير هذه الآيات عن فعل آدم وزوجه بالمعصية، ثم التعبير باتباع الهدى أو الإعراض عنه، هذه التعبيرات مجتمعة تبين بوضوح دلالة هذه الحادثة الأولى في تاريخ البشرية على أن «الحق في الاختيار» قيمة فطر الإنسان عليها، ومارسها منذ بداية الخليقة.
كذلك فإن القرآن الكريم يبيّن لرسول الله أنه لا سبيل إلى الحجر على حرية الناس في التفكير أو في الاعتقاد، وأن الأمر في ذلك إليهم يختار كل منهم لنفسه: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، بل إن القرآن يقرر في ذلك حقيقة صارخة «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»...
من خلال ما سبق، يتضح بأن حرية الاعتقاد في القرآن تمنع أي إنسان من مضايقة أحد بسبب اعتناقه لعقيدة معينة، كما تمنع محاولة فرض عقيدة معينة أو قناعات خاصة على الناس بالإكراه والقوة، كما تمنع تأنيب الآخرين أو الاستهزاء بهم بسبب معتقداتهم..، ولكن المنهج الذي يرسخه القرآن الكريم هو الحوار ومواجهة الحجة بالحجة... وقرر قاعدة ذهبية في ذلك، ألا وهي «لا إكراه في الدين»...
ومن الدلائل الصادقة على تقرير القرآن لهذه الحقيقة في حرية الإنسان وأنها فطرته التي خلق عليها، أنه أباح للمسلمين ـــــ بل أوجب عليهم ـــــ حين تضيق بهم الأرض لممارسة قناعاتهم الدينية والفكرية أن يهاجروا منها إلى الأرض التي تضمن لهم حرية الاعتقاد، وهذه الهجرة لا يشترط فيها أن تكون إلى أرض تدين بدين الإسلام، بل يكفي أن يكون بإمكان المسلمين في مهجرهم أن يعبدوا ربهم ويقيموا شعائر دينهم، وهكذا كانت حال المسلمين الأوائل في هجرتهم إلى الحبشة التي كان ملكها وأهلها من النصارى...
إن رسالة الإسلام الخالدة كانت ولا تزال هي تحرير العقل البشري وتوجيهه نحو الدليل والبرهان والتفكير العلمي الحر، ودفعه لتحمل مسؤولياته باختياره الحر من دون وصاية أو توجيه...
حاجتنا لإحياء قيمة الحرية ونبذ عقلية الوصاية والإكراه في كل شيء، وأولها نبذ كل محاولة لتنميط عقائد الناس ومذاهبهم واتجاهاتهم ومدارسهم وسلوكهم الفردي، مع الاطمئنان التام بأن الله هو الذي أنزل الذكر وهو القائل: «وإنّا له لحافظون» صدق الله العظيم.
* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في المغرب